الغربة والحنين في شعر العصر المملوكي ( 648هـ - 923هـ )
إسماعيل طه محمد حروب;
Abstract
تباينت نظرة الأدباء والنقاد حول العصر المملوكي, أدبه وعناصر التجديد فيه, فمنهم من نعته بأوصاف مجحفة, كالانحطاط والتقليد والمبالغة في الصنعة وغيرها, في حين يرى كثيرون منهم أنّ العصر المملوكي محطَّةً مهمَّةً من محطّات الأدب العربي, وعصر له خصوصيّتُهُ التي تميّزه عن غيره, فمن أبحرَ فيه وتعرّف على أدبائه وشعرائه, عرف قدرهم العالي ومستواهم الرفيع في الأدب شعره ونثره, وهم بذلك لا يقلّون عمّن سبقهم شأناً إذ إنّنا عند الحكم على أدب عصر ما, لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف التي أحاطت به من جوانبه المختلفة, السياسية والاجتماعية والاقتصادية, فهو عصرٌ تكالبت فيه الأمم والشعوب على البلاد العربيّة, فطمعوا في خيراتها والسيطرة على أراضيها لمكانتها الجغرافية.
أضف إلى ذلك انعدام الحافز لدى الشعراء من الحكّام والولاة أصحاب النفوذ, كونهم أو غالبيّتهم من عناصر غير عربيّة, كانوا من المماليك تدرّجوا حتى وصلوا الحكم, فلم يهتمّوا بالشعر والشعراء, فقلّ التكسّب به, ومال أكثر الشعراء إلى الحرف والمهن يسدّون بها عوزهم وحاجة أسرهم, فكان منهم الورّاق والكحّال والجزّار والحمّامي, فلم يُفرغوا الوقت الكافي لنظم الشعر وتجويده والعناية به, وبالرغم من ذلك جاءت أغلب قصائدهم في غاية الرّوعة والجمال, عبّرت عن حالهم ومعانيهم.
ولعلّ اهتمام الشعراء لمذهب السهولة, ومجاراة روح العصر في صورهم وأساليبهم ولغتهم أساس حكم النقّاد عليهم بالتقصير والضعف, فكلّ عصر له خصوصيته التي تميّزه عن غيره في اللّغة والمادة التي يستقون منها صورهم وأخيلتهم, فالعصر الجاهلي يختلف عن الذي يليه من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وهكذا فمن الظلم المجحف مقابلة أدب العصر المملوكي بظروفه التي أحاطت به مع أدب العصر العصر الجاهلي والإسلامي والأموي وبدايات العصر العباسي.
وبالرغم من ذلك يبقى العصر المملوكي واحداً من العصور الأدبية المهمّة في تاريخ أدبنا العربي, ويبقى التراث الأدبي في ذلك العصر شامخاً في وجه منتقديه, ففيه أُلِّفت المصادر والموسوعات الضخمة الماثلة أمام أعيننا, والتي لولاها لضاع كثير من النصوص التاريخية والأدبية مع من ضاع إثر الحملات الغاشمة على بلاد المسلمين, ولا ننسى التتار حين أودعوا مياه دجلة ثمرة علمائنا وأدبهم وفلسفتهم, كما أنّ هذا العصر شهد بروز القوّة الحربية الضارية لدى المسلمين والتي مثّل العنصر المملوكي أغلبيّتها, فتمّ لها النصر على الصليبين والمغول والتتار الذين كادوا أن يقتلعوا جذور الأمّة ويطمسوا تراثها وتاريخها وحضارتها, فعلماء الأمّة كما هو الحال في كلّ زمان ومكان هبّوا لنجدة تراثهم وحضارتهم, وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس, فانكبّوا على العلم والأدب والحضارة الإسلامية يحفظون ما بقي منه, وهذا جعل المكتبة العربية تزخر بكمٍّ هائل من المخطوطات التي ألّفت في شتّى ميادين المعرفة.
لا بدّ أنّ هذا كلّه كان دافعاً وحافزاً على اختيار العصر المملوكي مجالاً للدراسة, وذلك اعترفاً بأهميّته وأهميّة أدبه وعلمه, وكثرة الشعراء الذين نظموا في اتجاهات مختلفة من اتجاهات الشعر العربي, وتعبير الأدب عن كثير من جوانب الحياة في ذلك العصر, أهمّها الحوادث التي تركت آثارها ظاهرة على البلاد العربيّة بأسرها.
ومصر مركز الحكم في عصر المماليك, ومنارة الإسلام والعلم والأدب, خصوصاً بعد انقضاء الخلافة العباسيّة في بغداد على يد التتار, وفتحت ذراعيها أمام العلماء والأدباء العرب والمسلمين, وشهدت عدداً كبيراً من الشعراء الذين أثروا الأدب في تلك الحقبة بإنتاجهم الغزير وعطائهم الواسع في شتّى الأغراض الشعرية, فوصلنا دواوين بعضهم, في حين بقي كثير منها مخطوطاً في بطون المكتبات, تحتاج إلى جهود الدارسين لتخرج لنا في حلّة جديدة من خلال جمعها ودراستها, فمصر حافظت على أصالتها وتراثها وحضارتها, لهذا اتصلت الدراسة في كثير من جوانبها بشعراء مصر, وارتكزت على معانيهم وأغراضهم, سواءً أكانوا مصريين أم وافدين, قضوا شطراً كبيراً من حياتهم فيها.
وتضافرت عوامل عدّة جعلتني أختار هذا الموضوع دون غيره, منها: محاولة نفض الغبار عن جزء بسيط من هذا العصر, وتقديم لمحة موجزة عن العصر المملوكي؛ الذي اتّهم كما قلنا بالضعف والانحطاط والتقليد, وذلك بدراسة اتّجاه شعريّ من اتّجاهات الشعر العربي (الغربة والحنين), حيث أصبح هذا الاتّجاه فنّاً قائماً بذاته, ينظم الشاعر فيه قصائد خاصّة, يبثّها أشواقه وأحاسيسه التي اختلجت صدره إثر غيابه عن وطنه, أو فراقه لأهله وأحبّته وخلّانه, في حين كان هذا الفنّ يَرِدُ في ثنايا قصائد أخرى في العصور السابقة, ومن العوامل أيضاً: بيان الجوانب التي أبدع فيها الشعراء المغمورون الذين لم تسمح لهم الظروف بالشهرة والذيوع لدى القرّاء.
لذا ارتأيت أن تكون الدراسة متّصلة بأدب هذا العصر, علّها تنفض غباراً عن إسهامات الشعراء في ميادين الأدب, وتكون إضاءة إلى رهافة الحسّ وإبداع الشعراء عن معانيهم ومشاعرهم, وهي من نعم الله وفضله على الإنسان, فليس له أن ينسى المكان الذي عاش فيه أجمل أيّام حياته, وشهد حبّه لمحبوبته واجتماعه بأصدقائه, إضافة إلى الأهل والأقرباء, هذا ومن ناحية أخرى فإنَّ حنين الإنسان وشوقه للذات الإلهيّة, ورؤية وجه النبي الكريم من أعظم الاتّجاهات التي عبّر عنها الشعراء في تلك الفترة.
ولكي يكون عنوان دراستي متّصلاً اتّصالاً وثيقاً بموضوع الدراسة, تتوافر فيه الدّقّة ارتأيت أن يكون على النحو الآتي:
الغربة والحنين في شعر العصر المملوكي
(648ه-923هـ)
إلّا أنّ هناك بعض المشكلات التي واجهت الباحث, فيما يتعلق بجمع مادّة البحث؛ وذلك لأنّ الكتب التي ترجمت وأُلِّفت حول العصر المملوكي محدودة, إضافة إلى رجوع البحث إلى الموسوعات واستخدامها في جمع أشعار الغربة والحنين, ومنها أيضاً: اعتماد البحث على عدد من الدواوين المخطوطة؛ والتي تحتاج إلى جهود الدارسين لدراستها وبعثها في حُلَّةٍ جديدة, يفيدُ منها الباحثون والدارسون.
أمّا فيما يتعلق بهيكل البحث, فقسّمته إلى تمهيد وأربع فصول وخاتمة, أمّا التمهيد: فتناول فيه الباحث العصر المملوكي من جوانبه المختلفة, السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينيّة والعلميّة, فالقارئ لهذا البحث لا بدّ له من أرضيّة صلبة يقف عليها حتّى يتعرّف على الظروف والبيئة التي أحاطت بالشاعر في أثناء نظمه لقصيدته, وما هي العوامل التي اضطرته للغربة والسفر, وهجر الأهل والأقرباء والخلّان, فضلاً عن ابتعاده عن أحبّته.
أمّا الفصل الأوّل: فأفرده الباحث لبيان معنى الحنين والغربة لغة واصطلاحاً في مبحثه الأول, وفي المبحث الثاني أصّل الشاعر لظاهرة الغربة والحنين وبيّن جذورها في الأدب العربي من خلال نصوص شعريّة من العصر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي, وفي المبحث الثالث تحدّث الباحث عن ألوان الاغتراب, الغربة عن الوطن والمجتمع وغربة الروح والذّات, وفي المبحث الرابع بيّن الباحث أهم مثيرات الحنين في نفس الشاعر.
وفي الفصل الثاني: تناول فيه الباحث حنين الأوطان, فقسّمه إلى ثلاثة أقسام: الأول: حنين بكاة الأطلال والديار حال وقوفه بها, وما يتبع ذلك من تحيّة وسؤال داعياً لها بالسقيا, مبيّناً الألم والمعاناة عند وقوفه بها متذكراً أزمانه الماضية, فالشاعر وفيّ بعهده ووعده, والقسم الثاني: أفرده الباحث للحديث عن الحنين للمدن العامرة والمدن المنكوبة المدمّرة, أمّا القسم الثالث: فأفرده الباحث للحديث عن تفضيل البلدان في شعر الحنين إلى الأوطان.
أمّا الفصل الثالث: فأفرده الباحث للحديث حول اتّجاهات شعر الغربة والحنين, فجاء في سبعة مباحث, الأول: جاء في حنين الأحبّة, والثاني: حنين الأصدقاء, في حين تناول الباحث في الثالث: حنين الأهل والأقرباء, كالوالدين والأبناء والأخوة والأقارب, أمّا المبحث الرابع: فجاء في الحنين إلى شرب الخمر, معرِّجاً على الأيّام والليالي والساقي والندامى والرهبان وذكر الحانات وأسمائِها وما تفعله الخمرة بشاربها, وفي المبحث الخامس: تحدّث عن حنين المكرهين والمسجونين والمجاهدين, وجاء المبحث السادس: في الحنين الديني إلى النّبي (ص) والذّات الإلهيّة, والمبحث السابع: جاء في الحنين إلى المقدّسات, مكة ومدينة طيبة والقدس الشريف.
أمّا الفصل الرابع: فاختصَّ بالدراسة الفنيّة لشعر الغربة والحنين, قسّمته إلى خمسة مباحث, الأوّل: تناول بناء القصيدة, من حيث حسن المطلع والعرض وحسن التخلّص, أمّا الثاني: فأُفرد لدراسة لغة الشعراء؛ وما تميّزت به من السهولة والعذوبة والرقّة, فجاءت ألفاظهم مستساغة بعيدة عن الغرابة والتعقيد وصلابة التراكيب, ويتناول المبحث الثالث: الأسلوب والبديع في شعر الغربة والحنين, والمبحث الرابع: جاء في الصورة الشعريّة والخيال, أمّا المبحث الخامس: فتناول موسيقا الشعر بنوعيها: الخارجية المتمثّلة في الوزن والقافية, والداخلية المتمثّلة في موسيقا الحروف والكلمات وتكرار كلّ منها.
وأنهى الباحث دراسته بخاتمة ضمّنها أهم النتائج التي توصّل إليها خلال دراسته, وكان لزاماً على الباحث أن ينهي دراسته بفهرس المصادر والمراجع التي تطلّبها بحثه.
والمنهج الذي اعتمده الباحث كان المنهج الوصفي التحليلي مع الاعتماد على المناهج الآتية: المنهج النفسي والمنهج التاريخي, ومنهج التحليل الفني, وذلك أنّ الدراسة لا تسير في اتّجاه معيّن.
وفيما يتّصل بالمصادر والمراجع, فقد نوّع الباحث فيها, فكان للمخطوطات حضور بارز في البحث, منها: ديوان ابن حجّة الحموي, وديوان شمس الدين العمري, وديوان الموازيني, وديوان أبي المواهب الشاذلي, وديوان برهان الدين القيراطي, وديوان إبراهيم الجعبري, وديوان ابن مكانس, وكان اعتماد الباحث على الموسوعات والكتب التي ترجمت للعصر المملوكي كبير, فمن المصادر المطبوعة: كتاب "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" للسخاوي, وكتاب" البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" للشوكاني, و"الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لابن حجر العسقلاني, واعتماده على كتاب " شذرات الذهب" للحنبلي, و"نفح الطيب" للمقّري, و"نهاية الأرب" للنّويري.
وكان اهتمام الشاعر بالمراجع المطبوعة كبيراً أيضاً, أفاد منها الباحث في تحليله للشعر ونقده, منها: "تاريخ الأدب العربي" وكتاب "الأدب في بلاد الشام عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك" لعمر موسى باشا, وكتاب "الأدب في العصر المملوكي" لمحمد زغلول سلّام, و "الحركة الشعرية زمن المماليك في حلب الشهباء" لأحمد فوزي الهيب, وكتاب "فنّ الغزل في الشعر المملوكي" لحسن عبد الرحيم سليم.
أمّا فيما يتعلق بكتب النقد, فنوّع الشاعر في استخدامها, منها كتاب إبراهيم أنيس "الأصوات اللّغوية" و "موسيقى الشعر" وكتاب "تحرير التحبير" لابن أبي الإصبع, و "المثل السائر" لابن الأثير, و "خزانة الأدب" لابن حجّة الحموي, و "الصناعتين" لأبي هلال العسكري, وكتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر.
وأخيراً فإنّ هذا ما استطعت تقديمه في هذه الدراسة, محاولاً الإلمام بها في جميع جوانبها, ولا أزعمُ أنِّي بلغت في ذلك الغاية, ولا أتيتُ بما فيه الكفاية, وإنّي لناظر بعين التقدير والاحترام لكلّ من يسدي إليّ ملاحظةً يسدّد فيها خُطايَ, أو إرشاد أتلافى فيه الخطأ, فإن أصبت فمن الله, وإن قصّرتُ فمن نفسي, والله الموفّق, إنّه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أنّ الحمدُ لله ربِّ العالمين
أضف إلى ذلك انعدام الحافز لدى الشعراء من الحكّام والولاة أصحاب النفوذ, كونهم أو غالبيّتهم من عناصر غير عربيّة, كانوا من المماليك تدرّجوا حتى وصلوا الحكم, فلم يهتمّوا بالشعر والشعراء, فقلّ التكسّب به, ومال أكثر الشعراء إلى الحرف والمهن يسدّون بها عوزهم وحاجة أسرهم, فكان منهم الورّاق والكحّال والجزّار والحمّامي, فلم يُفرغوا الوقت الكافي لنظم الشعر وتجويده والعناية به, وبالرغم من ذلك جاءت أغلب قصائدهم في غاية الرّوعة والجمال, عبّرت عن حالهم ومعانيهم.
ولعلّ اهتمام الشعراء لمذهب السهولة, ومجاراة روح العصر في صورهم وأساليبهم ولغتهم أساس حكم النقّاد عليهم بالتقصير والضعف, فكلّ عصر له خصوصيته التي تميّزه عن غيره في اللّغة والمادة التي يستقون منها صورهم وأخيلتهم, فالعصر الجاهلي يختلف عن الذي يليه من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وهكذا فمن الظلم المجحف مقابلة أدب العصر المملوكي بظروفه التي أحاطت به مع أدب العصر العصر الجاهلي والإسلامي والأموي وبدايات العصر العباسي.
وبالرغم من ذلك يبقى العصر المملوكي واحداً من العصور الأدبية المهمّة في تاريخ أدبنا العربي, ويبقى التراث الأدبي في ذلك العصر شامخاً في وجه منتقديه, ففيه أُلِّفت المصادر والموسوعات الضخمة الماثلة أمام أعيننا, والتي لولاها لضاع كثير من النصوص التاريخية والأدبية مع من ضاع إثر الحملات الغاشمة على بلاد المسلمين, ولا ننسى التتار حين أودعوا مياه دجلة ثمرة علمائنا وأدبهم وفلسفتهم, كما أنّ هذا العصر شهد بروز القوّة الحربية الضارية لدى المسلمين والتي مثّل العنصر المملوكي أغلبيّتها, فتمّ لها النصر على الصليبين والمغول والتتار الذين كادوا أن يقتلعوا جذور الأمّة ويطمسوا تراثها وتاريخها وحضارتها, فعلماء الأمّة كما هو الحال في كلّ زمان ومكان هبّوا لنجدة تراثهم وحضارتهم, وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس, فانكبّوا على العلم والأدب والحضارة الإسلامية يحفظون ما بقي منه, وهذا جعل المكتبة العربية تزخر بكمٍّ هائل من المخطوطات التي ألّفت في شتّى ميادين المعرفة.
لا بدّ أنّ هذا كلّه كان دافعاً وحافزاً على اختيار العصر المملوكي مجالاً للدراسة, وذلك اعترفاً بأهميّته وأهميّة أدبه وعلمه, وكثرة الشعراء الذين نظموا في اتجاهات مختلفة من اتجاهات الشعر العربي, وتعبير الأدب عن كثير من جوانب الحياة في ذلك العصر, أهمّها الحوادث التي تركت آثارها ظاهرة على البلاد العربيّة بأسرها.
ومصر مركز الحكم في عصر المماليك, ومنارة الإسلام والعلم والأدب, خصوصاً بعد انقضاء الخلافة العباسيّة في بغداد على يد التتار, وفتحت ذراعيها أمام العلماء والأدباء العرب والمسلمين, وشهدت عدداً كبيراً من الشعراء الذين أثروا الأدب في تلك الحقبة بإنتاجهم الغزير وعطائهم الواسع في شتّى الأغراض الشعرية, فوصلنا دواوين بعضهم, في حين بقي كثير منها مخطوطاً في بطون المكتبات, تحتاج إلى جهود الدارسين لتخرج لنا في حلّة جديدة من خلال جمعها ودراستها, فمصر حافظت على أصالتها وتراثها وحضارتها, لهذا اتصلت الدراسة في كثير من جوانبها بشعراء مصر, وارتكزت على معانيهم وأغراضهم, سواءً أكانوا مصريين أم وافدين, قضوا شطراً كبيراً من حياتهم فيها.
وتضافرت عوامل عدّة جعلتني أختار هذا الموضوع دون غيره, منها: محاولة نفض الغبار عن جزء بسيط من هذا العصر, وتقديم لمحة موجزة عن العصر المملوكي؛ الذي اتّهم كما قلنا بالضعف والانحطاط والتقليد, وذلك بدراسة اتّجاه شعريّ من اتّجاهات الشعر العربي (الغربة والحنين), حيث أصبح هذا الاتّجاه فنّاً قائماً بذاته, ينظم الشاعر فيه قصائد خاصّة, يبثّها أشواقه وأحاسيسه التي اختلجت صدره إثر غيابه عن وطنه, أو فراقه لأهله وأحبّته وخلّانه, في حين كان هذا الفنّ يَرِدُ في ثنايا قصائد أخرى في العصور السابقة, ومن العوامل أيضاً: بيان الجوانب التي أبدع فيها الشعراء المغمورون الذين لم تسمح لهم الظروف بالشهرة والذيوع لدى القرّاء.
لذا ارتأيت أن تكون الدراسة متّصلة بأدب هذا العصر, علّها تنفض غباراً عن إسهامات الشعراء في ميادين الأدب, وتكون إضاءة إلى رهافة الحسّ وإبداع الشعراء عن معانيهم ومشاعرهم, وهي من نعم الله وفضله على الإنسان, فليس له أن ينسى المكان الذي عاش فيه أجمل أيّام حياته, وشهد حبّه لمحبوبته واجتماعه بأصدقائه, إضافة إلى الأهل والأقرباء, هذا ومن ناحية أخرى فإنَّ حنين الإنسان وشوقه للذات الإلهيّة, ورؤية وجه النبي الكريم من أعظم الاتّجاهات التي عبّر عنها الشعراء في تلك الفترة.
ولكي يكون عنوان دراستي متّصلاً اتّصالاً وثيقاً بموضوع الدراسة, تتوافر فيه الدّقّة ارتأيت أن يكون على النحو الآتي:
الغربة والحنين في شعر العصر المملوكي
(648ه-923هـ)
إلّا أنّ هناك بعض المشكلات التي واجهت الباحث, فيما يتعلق بجمع مادّة البحث؛ وذلك لأنّ الكتب التي ترجمت وأُلِّفت حول العصر المملوكي محدودة, إضافة إلى رجوع البحث إلى الموسوعات واستخدامها في جمع أشعار الغربة والحنين, ومنها أيضاً: اعتماد البحث على عدد من الدواوين المخطوطة؛ والتي تحتاج إلى جهود الدارسين لدراستها وبعثها في حُلَّةٍ جديدة, يفيدُ منها الباحثون والدارسون.
أمّا فيما يتعلق بهيكل البحث, فقسّمته إلى تمهيد وأربع فصول وخاتمة, أمّا التمهيد: فتناول فيه الباحث العصر المملوكي من جوانبه المختلفة, السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينيّة والعلميّة, فالقارئ لهذا البحث لا بدّ له من أرضيّة صلبة يقف عليها حتّى يتعرّف على الظروف والبيئة التي أحاطت بالشاعر في أثناء نظمه لقصيدته, وما هي العوامل التي اضطرته للغربة والسفر, وهجر الأهل والأقرباء والخلّان, فضلاً عن ابتعاده عن أحبّته.
أمّا الفصل الأوّل: فأفرده الباحث لبيان معنى الحنين والغربة لغة واصطلاحاً في مبحثه الأول, وفي المبحث الثاني أصّل الشاعر لظاهرة الغربة والحنين وبيّن جذورها في الأدب العربي من خلال نصوص شعريّة من العصر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي, وفي المبحث الثالث تحدّث الباحث عن ألوان الاغتراب, الغربة عن الوطن والمجتمع وغربة الروح والذّات, وفي المبحث الرابع بيّن الباحث أهم مثيرات الحنين في نفس الشاعر.
وفي الفصل الثاني: تناول فيه الباحث حنين الأوطان, فقسّمه إلى ثلاثة أقسام: الأول: حنين بكاة الأطلال والديار حال وقوفه بها, وما يتبع ذلك من تحيّة وسؤال داعياً لها بالسقيا, مبيّناً الألم والمعاناة عند وقوفه بها متذكراً أزمانه الماضية, فالشاعر وفيّ بعهده ووعده, والقسم الثاني: أفرده الباحث للحديث عن الحنين للمدن العامرة والمدن المنكوبة المدمّرة, أمّا القسم الثالث: فأفرده الباحث للحديث عن تفضيل البلدان في شعر الحنين إلى الأوطان.
أمّا الفصل الثالث: فأفرده الباحث للحديث حول اتّجاهات شعر الغربة والحنين, فجاء في سبعة مباحث, الأول: جاء في حنين الأحبّة, والثاني: حنين الأصدقاء, في حين تناول الباحث في الثالث: حنين الأهل والأقرباء, كالوالدين والأبناء والأخوة والأقارب, أمّا المبحث الرابع: فجاء في الحنين إلى شرب الخمر, معرِّجاً على الأيّام والليالي والساقي والندامى والرهبان وذكر الحانات وأسمائِها وما تفعله الخمرة بشاربها, وفي المبحث الخامس: تحدّث عن حنين المكرهين والمسجونين والمجاهدين, وجاء المبحث السادس: في الحنين الديني إلى النّبي (ص) والذّات الإلهيّة, والمبحث السابع: جاء في الحنين إلى المقدّسات, مكة ومدينة طيبة والقدس الشريف.
أمّا الفصل الرابع: فاختصَّ بالدراسة الفنيّة لشعر الغربة والحنين, قسّمته إلى خمسة مباحث, الأوّل: تناول بناء القصيدة, من حيث حسن المطلع والعرض وحسن التخلّص, أمّا الثاني: فأُفرد لدراسة لغة الشعراء؛ وما تميّزت به من السهولة والعذوبة والرقّة, فجاءت ألفاظهم مستساغة بعيدة عن الغرابة والتعقيد وصلابة التراكيب, ويتناول المبحث الثالث: الأسلوب والبديع في شعر الغربة والحنين, والمبحث الرابع: جاء في الصورة الشعريّة والخيال, أمّا المبحث الخامس: فتناول موسيقا الشعر بنوعيها: الخارجية المتمثّلة في الوزن والقافية, والداخلية المتمثّلة في موسيقا الحروف والكلمات وتكرار كلّ منها.
وأنهى الباحث دراسته بخاتمة ضمّنها أهم النتائج التي توصّل إليها خلال دراسته, وكان لزاماً على الباحث أن ينهي دراسته بفهرس المصادر والمراجع التي تطلّبها بحثه.
والمنهج الذي اعتمده الباحث كان المنهج الوصفي التحليلي مع الاعتماد على المناهج الآتية: المنهج النفسي والمنهج التاريخي, ومنهج التحليل الفني, وذلك أنّ الدراسة لا تسير في اتّجاه معيّن.
وفيما يتّصل بالمصادر والمراجع, فقد نوّع الباحث فيها, فكان للمخطوطات حضور بارز في البحث, منها: ديوان ابن حجّة الحموي, وديوان شمس الدين العمري, وديوان الموازيني, وديوان أبي المواهب الشاذلي, وديوان برهان الدين القيراطي, وديوان إبراهيم الجعبري, وديوان ابن مكانس, وكان اعتماد الباحث على الموسوعات والكتب التي ترجمت للعصر المملوكي كبير, فمن المصادر المطبوعة: كتاب "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" للسخاوي, وكتاب" البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" للشوكاني, و"الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لابن حجر العسقلاني, واعتماده على كتاب " شذرات الذهب" للحنبلي, و"نفح الطيب" للمقّري, و"نهاية الأرب" للنّويري.
وكان اهتمام الشاعر بالمراجع المطبوعة كبيراً أيضاً, أفاد منها الباحث في تحليله للشعر ونقده, منها: "تاريخ الأدب العربي" وكتاب "الأدب في بلاد الشام عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك" لعمر موسى باشا, وكتاب "الأدب في العصر المملوكي" لمحمد زغلول سلّام, و "الحركة الشعرية زمن المماليك في حلب الشهباء" لأحمد فوزي الهيب, وكتاب "فنّ الغزل في الشعر المملوكي" لحسن عبد الرحيم سليم.
أمّا فيما يتعلق بكتب النقد, فنوّع الشاعر في استخدامها, منها كتاب إبراهيم أنيس "الأصوات اللّغوية" و "موسيقى الشعر" وكتاب "تحرير التحبير" لابن أبي الإصبع, و "المثل السائر" لابن الأثير, و "خزانة الأدب" لابن حجّة الحموي, و "الصناعتين" لأبي هلال العسكري, وكتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر.
وأخيراً فإنّ هذا ما استطعت تقديمه في هذه الدراسة, محاولاً الإلمام بها في جميع جوانبها, ولا أزعمُ أنِّي بلغت في ذلك الغاية, ولا أتيتُ بما فيه الكفاية, وإنّي لناظر بعين التقدير والاحترام لكلّ من يسدي إليّ ملاحظةً يسدّد فيها خُطايَ, أو إرشاد أتلافى فيه الخطأ, فإن أصبت فمن الله, وإن قصّرتُ فمن نفسي, والله الموفّق, إنّه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أنّ الحمدُ لله ربِّ العالمين
Other data
| Title | الغربة والحنين في شعر العصر المملوكي ( 648هـ - 923هـ ) | Other Titles | alienation and nostalgia in the poetry of the Mamluk era ( 923 - 648 ) | Authors | إسماعيل طه محمد حروب | Issue Date | 2015 |
Recommend this item
Similar Items from Core Recommender Database
Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.