الطب وطرق التداوى فى مصر البيزنطية (284 – 642م)

أسامة فايز استقلال أحمد;

Abstract


هدفت هذه الدراسة إلى التعرف على حال الطب وطرق التداوى فى مصر البيزنطية (284-642م)، ومن خلال الدراسة تمكنَّا فى البداية من الوقوف على مستوى التعليم الطبى فى مصر إبان الفترة محل الدراسة، ووضح لنا أن ممارسة الطب العلمى فى مصر استندت إلى تعليم طبى بلغ مستوىً متقدماً للغاية، وكان مقره جامعة الإسكندرية التى تعود نشأتها إلى العصر البطلمى، والتى أفرخت مدرستها الطبية على مدار تاريخها الطويل، الممتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادى، أجيالاً متعاقبة من أساطين العلوم الطبية والعلماء الموسوعيين، ابتداءً من «هيروفيلوس» ووصولاً إلى «يحيى النحوى»، فضلاً عن أنها قد جذبت إليها طلاب الطب من كل حدب وصوب فى أنحاء المعمورة، فتخرج فيها أسماء عديدة لمعت فى ميدان الطب على المستوى النظرى أو العملى أو الاثنين معاً، ولعل من أبرز تلك الأسماء اللامعة «جالينوس» الذى أصبح علماً من أعلام الطب فى العصر الرومانى، وصارت مؤلفاته الطبية المنهل الذى ظل ينهل منه أهل المعرفة الطبية حتى العصر الحديث، ناهيك عن الأعلام الذين تخرجوا من المدرسة ذاتها فى الفترة محل الدراسة وبزغ نجمهم فى سماء العالم البيزنطى بأسره، لما حققوه لعلم الطب من إضافة فى جانب الكتابات الطبية أو الممارسات العملية، من أمثال «ماجنوس النصيبينى» و«أوريباسيوس» و«آتيوس الأميدى» و«بول الإيجينى» وغيرهم، لاسيما وأن مدرسة الإسكندرية الطبية قد نجحت خلال الفترة محل الدراسة فى إعداد مقرر دراسى نموذجى لطلاب الطب، يتكون من ستة عشر كتاباً مختاراً من بين كتابات «جالينوس» التى أثراها أساتذة الطب بالمدرسة بخلاصاتهم وشروحهم وتعليقاتهم الغنية التى أمدت طالب الطب بالمدرسة بمادة وفيرة من المعلومات تؤهله لحياة مهنية ناجحة، خاصة وأن طلاب الطب قد دعموا معلوماتهم النظرية بما استطاعوا تحصيله من خبرات عملية نالوها بالتفافهم حول أساتذتهم الذين كانوا يحرصون على اصطحاب تلامذتهم وهم يتابعون مرضاهم .
أيضاً من خلال الدراسة تسنى لنا التعرف على بعض جوانب الحياة المهنية للأطباء المتعلمين، وذلك فى ضوء تصنيف فئة الأطباء المتعلمين نفسها إلى شرائح متنوعة، شملت «الأرخياتروى» الذين انحصرت فائدتهم لفترة طويلة فى خدمة الطبقات الحاكمة والأرستقراطية، ثم بدأ دورهم ينسحب تدريجياً منذ القرن الرابع الميلادى للخدمة فى المرافق الصحية الحكومية، وأصبح لقبهم علماً على الأطباء العموميين فى مصر، إلى أن جاء القرن السادس الميلادى، وتحديداً فى عهد الإمبراطور جستنيان الذى بموجب قرارته تحولت خبرات وجهود تلك الشريحة من الأطباء لإدارة وخدمة المستشفيات التى أخذت فى الانتشار رويداً فى الإمبراطورية البيزنطية بصفة عامة، والمدن الكبرى بالولايات الشرقية بصفة خاصة منذ القرن الرابع الميلادى. وقد تضمنت فئة الأطباء المتعلمين أيضاً شريحة «الديموسيوى ياتروى» الذين ذهب أغلب الباحثين إلى أن لقبهم كان ينسحب على سائر الأطباء العمومين بمصر، إلا أن الباحث استطاع أن يثبت بأدلة من الوثائق أن لقبهم كان علماً على قطاع من الأطباء الحكوميين انحصر عمله فى الطب الشرعى وإعداد التقارير الطبية المرفوعة إلى الجهات المسئولة فى حالات المشاجرات الحادثة بين الأفراد والمترتب عليها إصابات أو جروح، وكذا فى حالات الحوادث والوفاة الجنائية، فضلاً عن توقيع الكشف الطبى على الموظفين الحكوميين المتغيبين عن عملهم بعذر مرضى حتى يتسنى لهم الحصول رسمياً على إجازة مرضية حال ثبوت صحة عذرهم المرضى، ويضاف إلى كل ذلك الدور الجديد الذى لعبه «الديموسيوى ياتروى» ابتداءً من عهد جستنيان فى إبداء الرأى الطبى فى نوعيات معينة من القضايا استلزم فيها الرجوع إلى رأى خبير فى علم الطب، مخلفين بذلك أول صورة مكتملة للأطباء الشرعيين الذين نعرفهم فى عالمنا المعيش. كذلك فإن من أهم شرائح الأطباء المتعلمين التى تعرفنا عليها شريحة «الأطباء العسكريين» الذين انحصرت جهودهم فى خدمة الجيش ومستشفياته العسكرية، لاسيما فى أوقات الحروب، حيث تفتق ذهن حكام الإمبراطورية منذ العصر الرومانى إلى ضرورة إمداد الجيش بأطقم من الأطباء، بغية رفع معنويات الأفراد وإعطائهم شعور دائم بالإطمئنان على سرعة تلقيهم الرعاية الطبية اللازمة فور احتياجهم لها بسبب مرض أو إصابة، وقد استمر وجود هذه الشريحة من الأطباء المتعلمين إبان الفترة محل الدراسة، بحيث كان تزويد الجيش بهم يتم عبر ثلاثة طرق هى؛ التجنيد الالزامى، أو التعيين بعقود عمل مبرمة مع المدنيين منهم، أو إعداد كوادر طبية متخصصة تم تعليمها وتدريبها داخل الجيش بالاستفادة من الأطباء المجندين والاعتماد على المستشفيات العسكرية التى وفرت فرصة جيدة للتطبيقات العملية اللازمة لتأهيل هذه الكوادر الطبية العسكرية. وبخلاف الأطباء العسكريين تعرفنا أيضاَ على شرائح أخرى من الأطباء المتعلمين تنوعت بين «الأطباء غير الحكوميين» و«الأطباء البيطريين»، فضلاً عن «الأطباء المتعلمين من رجال الدين المسيحى» .
وفى سياق التعرف على معالم الحياة المهنية للأطباء المتعلمين تطرقنا أيضاً إلى الحديث عن الملامح الرئيسية لعلاقتهم بالدولة، ممثلة فى الإدارة الحاكمة لمصر على مدار الفترتين الرومانية والبيزنطية، وذلك من حيث إشراف الدولة على نشاطهم، والنقابات التى انضموا إليها، فضلاً عن الإمتيازات التى كفلتها لهم القوانين والتشريعات، ومدى تمتعهم بتلك الإمتيازات على أرض الواقع. كما تطرقنا كذلك إلى الحديث عن ملامح علاقتهم بالمجتمع الذى عاشوا فيه، من حيث نظرة المجتمع حيالهم ومدى تقبله لهم كفئة مارست الطب على أسس علمية، خاصةً فى ظل وجود فئات أخرى مارست الطب والمداواة انطلاقاً من أسس شعبية أو سحرية أو دينية. ولعل أهم ما رصدناه فى إطار علاقتهم بالمجتمع، قد تمثل فى محدودية إقبال أفراد المجتمع عليهم لالتماس الشفاء، ولقد عوَّلنا فى تفسير هذه المحدودية على عاملين مهمين؛ أولهما : العبء المالى الواقع على كاهل المريض، والذى يتمثل فى التزامه بسداد أتعاب الطبيب المعالج، وكذا تكلفه شراء الدواء الموصوف له. وثانيهما : أزمة الثقة فى كفاءة الطبيب المتعلم التى ترتبت على ميراث أدبى من التهكم على الأطباء المتعلمين، وبالطبع قد غرس ذلك الميراث الساخر فى وجدان الناس مع الزمن فكرة الخوف من الطبيب المتعلم الذى قد يتسبب بأخطائه الطبية فى تدهور حالة المريض أو انتهاء حياته بالكلية .
انتقلنا بعد ذلك إلى حديث مفصل عن بضعة نماذج لأهم المشكلات الصحية التى عانى منها الناس إبان الفترة محل الدراسة، فشمل حديثنا ذكر أمراض العين، والحميات، والأمراض الصدرية، وأمراض العظام، وأمراض النساء والولادة، والأمراض المجهولة بالنسبة لمعاصريها، والإصابات والجروح، وأخيراً الأوبئة والطواعين. هذا وقد حرصنا فى تخيرنا لهذه النماذج على الاعتماد على المصادر الوثائقية بشكل أساسى فى بيان ذكر هذه المشكلات الصحية، بحكم أن الشواهد الوثائقية تعتبر أصدق صورة مصدرية لتصوير معاناة الناس وإحساسهم الحقيقى تجاه المشكلات التى عانوا منها. وفى حالة ندرة الشواهد الوثائقية، قمنا بتعويض هذا النقص ببعض النتائج الباليوباثوليجية التى توصلت إليها البعثاث العلمية التى نقبت فى العديد من المناطق الأثرية بمختلف أقاليم مصر .
وأخيراً انتهينا إلى الحديث عن طرق التداوى التى عرفها المجتمع المصرى إبان الفترة محل الدراسة، والتى شملت العلاج الطبى والجراحى الذى اعتمد فى المرحلة الأولى منه على استعمال الأدوية والوصفات الطبية الكفيلة بمداواة الكثير من الأمراض، ثم كان اللجوء إلى الجراحة هو الخيار الراجح والمرحلة الثانية لهذا النوع من العلاج فى حالة ما إذا عجزت المرحلة الأولى عن تحقيق مأرب الشفاء. كما شملت طرق التداوى أيضاً لجوء المرضى إلى ما يُعرف اصطلاحاً ﺑ «الطب الشعبى» الذى يكون الاعتماد فيه على الخبرة العملية لا المعرفة العلمية، وقد تسنى لنا أن نلمس بعض صور ممارسات الطب الشعبى فى مصر البيزنطية، والتى تنوعت بين رعاية الأهل والأقارب للمرضى من ذويهم، والاعتماد على الغذاء الصحى، وتطبيب الحيوانات بالجهود الذاتية، واللجوء إلى القابلات فى مراحل الحمل والولادة، وأخيراً ممارسة عادة الختان التى تعد واحدة من أقدم صور ممارسات الطب الشعبى التى عرفها المجتمع المصرى ومازال يمارسها حتى عصرنا الحالى. بعدها تعرفنا على طريقة أخرى من طرق التداوى تمثلت فى اللجوء إلى السحر والشعوذة كسبيل لمداواة الأمراض، لجأ إليه من آمنوا أن الأرواح الشريرة والقوى السحرية هى الباعث لما يعصف بالمرء من علل وابتلاءات. وكانت آخر طرق التداوى التى تعرفنا عليها فى هذه الدراسة هى ما يُعرف اصطلاحاً ﺑ «العلاج المقدس» الذى ابتغى نيله المؤمنون بفاعليته فى العصر المسيحى، عبر القديسين الأحياء والأموات الذين تحقق الشفاء على أياديهم اعتماداً على ملكاتهم الربانية، ومن خلال معجزات إلهية خارقة للطبيعة .


Other data

Title الطب وطرق التداوى فى مصر البيزنطية (284 – 642م)
Other Titles Medicine and Methods of Treatment in Byzantine Egypt (A.D. 284 – 642)
Authors أسامة فايز استقلال أحمد
Issue Date 2016

Attached Files

File SizeFormat
G10692.pdf310.1 kBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 14 in Shams Scholar
downloads 644 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.