الفكر الأخلاقي عند ابن حزم بين النظر والعمل "دراسة تحليلية نقدية"

مريم خليفة المبروك;

Abstract


الحمد لله، والصلاة والسلام على ذي الخُلُق الكريم والمبعوث رحمة وهداية للخلائق أجمعين، والذي وصفه ربه، في القرآن الكريم بأنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن فظاً، ولا غليظ القلب، إنما كان على خُلُق عظيم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى كل من اتبع نهجه، وخُلُقه وهداه إلى يوم الدين.
أما بعد ...
لا يزال موضوع الأخلاق، على مر العصور، من الموضوعات التي تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام الإنسان وتستحوذ على تفكيره. فالإنسان من حيث هو كائن أخلاقي لا غنى له عن الأخلاق في حياته، ولا غنى له كذلك عن مَثل أعلى في سلوكه يدين له بالولاء، أو معيار خلقي للحكم على سلوكه وسلوك الناس من حوله بالخير أو بالشر.
فقوام الأخلاقية ومدارها أن الإنسان هو الكائن الوحيد – دون سائر الكائنات- الذي يملك إرادة التغيير بحرية ووعي كاملين، فينزع بمحض تفكيره وإرادته إلى مجاهدة أهوائه وضبط ميوله ونوازعه، والسيطرة على نزواته، وتوجيه رغباته ومطامحه إلى أقصى درجات الكمال الإنساني.
ومن هنا صح القول بأن الدعوة الأخلاقية قديمة قدم المجتمعات البشرية، فما اجتمع إثنان في أدنى الأرض أو أقصاها، على وجه البسيطة، إلا وقد نجمت – عن هذا التجمع – قواعد للتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والكمال والنقصان.. وغير ذلك من المعايير التي يلتزم بها الإنسان في سلوكه ليحيا حياة سعيدة، هذا التمييز الواعي لقواعد السلوك هو نشاط الفكر الأخلاقي ومبعث الفلسفة الخلقية ( ).
وقد شغلت الأخلاق اهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ، وحاولوا تفسيرها تفسيراً فلسفياً، وخاضوا غمار البحث فيها عملياً ونظرياً. فاهتموا بالبحث في أنواع الملكات والقيم الفاضلة التي ينبغي على الإنسان أن يتحلى بها ويمارسها في سلوكه وحياته العملية، كالصدق، والشجاعة، والأمانة، والوفاء، ونحو ذلك، كما اهتموا بالبحث في المبادئ الكلية، والمعاني الجامعة التي تستنبط منها الواجبات الفرعية، كالبحث عن الخير المطلق، والبحث في حقيقة الفضيلة من حيث هي قيمة مبتغاة، والبحث في حقيقة الضمير والواجب والغايات العليا ونحو ذلك، ونشدوا من خلال ذلك قيام مدينة فاضلة تسودها الفضائل العملية والنظرية، وتتحقق فيها العدالة والكمال والسعادة التامة.
ويمكن القول بأن المذاهب الخلقية في الفكر الفلسفي أخذت اتجاهين متمايزين:
الأول: الاتجاه المثالي (العقلي): ويذهب أصحابه إلى القول بأن القيم والمبادئ الخلقية واحدة ثابتة، عامة كلية، وأن وظيفة علم الأخلاق وضع مثل إنساني أعلى يسير بمقتضاه السلوك الإنساني بما هو كذلك – أي مجرداً من الزمان والمكان – ويكون ملائماً لأسمى جانب في الطبيعة البشرية – وهو جانب العقل المشترك بين كافة الناس، ويلتقي على طريقه البشر في كل زمان ومكان.
الثاني: الاتجاه الواقعي (الحسي): فإنه يذهب مذهباً مناقضاً للاتجاه الأول. ويرى أصحابه أنه ليس من واجب علم الأخلاق وضع قواعد أخلاقية عامة للسلوك الإنساني فذلك – في نظرهم - أمر غير ممكن، ولهذا تنحصر مهمة هذا العلم عندهم في تقرير الوقائع الأخلاقية ووصفها وتوضيحها، ودراسة ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون ومن هنا رفضوا فكرة المثال المطلق الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، واهتموا بنتائج الأفكار وآثارها دون الاهتمام بالمبادئ الأولية لها.
على أن التفرقة بين الواقعيين والمثاليين على النحو السالف الذكر، لا تنفي القول بأن فلاسفة الأخلاق معنيون بدراسة ما ينبغي أن يكون، يدرسه الواقعيون كما يبدو فعلاً في حياة مجتمع بشري معين يرتبط بزمانه ومكانه وظروفه وأحواله، ويدرسه المثاليون في صورة مبدأ أسمى يضعونه ملائماً لأسمى جانب في طبيعة الإنسان، وبالتالي يكون إنسانياً يتخطى حدود الزمان والمكان؛ فجميعهم – بلا استثناء – ينشدون تحقيق المثل الأعلى، ويلتقون عند احترام القيم الخلقية ودراستها للوقوف على طبيعتها وتحديد المعايير التي تستخدم في الحكم على خيرية الأفعال وشريتها( ).
على أن الفلسفة لم تنفرد وحدها بالبحث في الأخلاق، فالدين السماوي في شتى شرائعه مرتكز على دعوة أخلاقية في الأساس، تؤصّل في الإنسان نزعة الخير والفضيلة وتجنبه كل شرّ ورذيلة. فجميع الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – دعوا أقوامهم إلى مبادئ الأخلاق العليا، ونهوهم عن الرذائل والمنكرات، فلم تقتصر دعواتهم على الدعوة إلى توحيد الله وعبادته فقط، بل امتدت إلى تزكية النفس، وإصلاحها عن طريق الدعوة إلى مكارم الأخلاق، والنهي عن رذائلها، والقضاء على الفساد والانحلال الخلقي، الذي شاع بين أقوامهم. وليس أدل على ذلك من قوله  : "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فالغاية من بعثته الشريفة هي تحقيق الخلق القويم.
وتمثلت تعاليم الإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأخذ المسلمون يتدبرون هذه التعاليم وما اشتملت عليه من آداب وتشريع، ويسيرون على هدى القيم والمبادئ الفاضلة التي جاءت بها، فاتسعت مداركهم وتفتحت عقولهم على آفاق جديدة من العلم والمعرفة.
ونظراً لأن القرآن والسنة قد تكفلا ببيان الطريق المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان ليكون فاضلاً، فإن المسلمين - في الصدر الأول من الإسلام - لم يكونوا في حاجة إلى البحث العقلي في الأخلاق أي في أساس الخير والشر والفضيلة والرذيلة.... الخ. ولكن بعد أن تطور الفكر الإسلامي، ونشأت مدارس علم الكلام تناول المتكلمون من معتزلة وأشاعرة بعض المسائل الخلقية الهامة، كمسألة الحسن والقبح والخير والشر، والمقياس الذي يميز به بينها في الأفعال كما تناول أيضاً الخير والاختيار والنية والإرادة ودورها الأخلاقي وغيرها من المسائل الأخلاقية الهامة.
ومنذ أوائل القرن الثاني الهجري، بدأ المسلمون يختلطون بغيرهم من الشعوب والثقافات الأجنبية المختلفة، حيث ترجموا قدراً لا بأس به من علوم اليونان وفلسفتهم إلى اللغة العربية، وبعد أن انتقلت الفلسفة اليونانية إلى المسلمين في العصر الذهبي للدولة العباسية كان لها تأثير كبير في دفع جماعة من مفكري المسلمين إلى البحث في الأخلاق بحثاً فلسفياً، وانبثق عن هذا البحث تفاعل نظريات الفضائل الإغريقية مع المثل العليا في الحضارة العربية الإسلامية في تطلع واعد


Other data

Title الفكر الأخلاقي عند ابن حزم بين النظر والعمل "دراسة تحليلية نقدية"
Other Titles Ethical Thought of Ibn Hazm between the consideration and action
Authors مريم خليفة المبروك
Issue Date 2016

Attached Files

File SizeFormat
G13977.pdf327.51 kBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 10 in Shams Scholar
downloads 6 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.