السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها في الجمهورية اليمنية (دراسة مقارنة )

سيف ناصر على الحيمي;

Abstract


فالسلطة التقديرية للإدارة هي إحدى الامتيازات القانونية للإدارة، ولا يمكن أن يظهر هذا الامتياز في نظام لا يأخذ بنظام الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون؛ لأن الأصل في الدولة القانونية أن تكون الإدارة مقيدة بالقانون، لكنها تتمتع بقدر من الحرية في التصرف واتخاذ قراراتها ولا يعد ذلك مخالفاً للقانون، وبالتالي فالسلطة التقديرية تعد ضرورة حتمية لكل إدارة حديثة، غير أنه من المؤكد أنه لا يمكن أن تكون سلطات الإدارة تقديرية كلها ولا مقيدة كلها، فالمشرع غير قادر على سن قواعد في مواجهة كل المتغيرات التي تحصل في المجتمع ومن ثم تخلق للإدارة روح الابتكار وممارسة نشاطها بكل حرية، وهذا يؤدي إلى حسن سير الإدارة.
وإذا كانت السلطة التقديرية ضرورة حتمية - كما ذكرنا - لحياة وبقاء كل إدارة وذلك باعتبار هذه السلطة سلطة قانونية لا تخول الإدارة سوى حق الاختيار بين قرارين أو مسلكين أو أكثر باعتباره الأكثر ملاءمة، لكن الاعتراف بالسلطة التقديرية للإدارة لا يعني الاعتراف لها بسلطة استبدادية تحكمية مطلقة لا تخضع لأية رقابة، وفي ذلك يقول الفقيه جيرو: "إن السلطة التقديرية للإدارة ينبغي أن تخضع - بدون تحفظ - للرقابة القضائية".( ) فممارسة السلطة التقديرية للإدارة لابد أن تتم في إطار القانون الذي يحكم كل النشاط الإداري وداخل حدوده، وسواء أكانت السلطة تقديرية أم مقيدة فما هي إلا وسيلة لتطبيق القانون.( ) وهذا يشير بوضوح إلى توافق السلطة التقديرية مع مبدأ المشروعية باعتبارها وسيلة اعترف القانون بوجودها مثلها في ذلك مثل السلطة المقيدة.
وهنا يمكن القول إن السلطة التقديرية للإدارة تعد من أهم مواضيع القانون الإداري إن لم تكن أهمها وأدقها على الإطلاق، بل لا يعدو القانون الإداري- كما ذهب الأستاذ فالين - أن يكون عبارة عن دراسة السلطة التقديرية للإدارة وقيود ممارسة هذه السلطة،( ) حيث لم تحظ أية نظرية بدراسة شاملة ودقيقة مثلما حظيت به السلطة التقديرية سواء من جانب الفقه الفرنسي أو من جانب الفقه العربي، فهي تمثل عصب الحياة للنشاط الإداري، ومع ذلك فإنه وإلى الآن لم ترسم حدود هذه النظرية بشكل جلي وواضح بل لازال الغموض وعدم الوضوح يكتنفها.
فإذا كان الفقه الإداري قد استقر على أن السلطة التقديرية هي أمر لازم للإدارة العامة في عصرنا الحاضر كضرورة لا غنى عنها لتحقيق الإدارة الحسنة، فقد استقر أيضاً على أن تجاوز الإدارة حدود سلطتها التقديرية هو أمر خطير يؤدي إلى عواقب وخيمة تضر بالمصلحة العامة، فكان لابد من إيجاد وسيلة لتفادي كل ما من شأنه أن يخل بالمصلحة العامة.
وإذا كانت هناك وسائل عديدة يمكن بها الحد من تعديات وتجاوزات الإدارة على حقوق وحريات الأفراد والمتمثلة في كل من الرقابة السياسية والرقابة الإدارية والرقابة القضائية، فلعل أهم هذه الوسائل هي الرقابة القضائية لما تتضمنه من ضمانات قضائية عديدة لا تتوفر في غيرها من الوسائل، فالرقابة السياسية والرقابة الإدارية لا يمكن أن تحقق الغاية المنشودة منها على أحسن وجه، ذلك أن الرقابة السياسية تعتمد بشكل أساسي على اعتبارات وظروف سياسية، كما أن الرقابة الإدارية لا تضمن الحياد نظراً لأن الجهة صاحبة التصرف المعيب قد ترفض الاعتراف بالخطأ، كما أنه ليس من مقتضيات العدالة والمنطق القانوني السليم أن تكون الإدارة خصماً وحكماً في ذات النزاع.
لذا تبقى الرقابة القضائية من أهم وسائل أو صور الرقابة في الدولة القانونية، ذلك لأن القضاء هو الجهة المؤهلة لحماية مبدأ المشروعية لما يتوفر له من ضمانات الحياد والاستقلال في أداء وظيفته المتمثلة في تحقيق العدالة وتطبيق القانون بشكل سليم. فالقضاة - كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري-: "نخبة من رجال الأمة أشربت نفوسهم احترام القانون، وانغرس في قلوبهم حب العدل وهم بطبيعة وظائفهم يؤمنون بمبدأ المشروعية".( )
وبالتالي فإن الرقابة القضائية تهدف إلى حماية المصلحة العامة في نطاق النشاط الإداري للإدارة، ثم التأكد من شرعية العمل الإداري من الناحية القانونية؛ وذلك لحماية الأفراد من تعسف جهة الإدارة، ففي ظل هذه الرقابة يتحقق خضوع الإدارة للقانون بصورة كاملة، وذلك باعتبار هذه الرقابة أداة فعالة لإجبار الإدارة على احترام مبدأ المشروعية والالتزام دائما بما يوجبه القانون في التصرفات التي تصدر عنها، ولكونها رقابة تمارس على سائر أعمال الإدارة العامة سواء أكانت أعمالاً مادية أم أعمالاً قانونية، وهو الأمر الذي يدفع الإدارة إلى احترام الأنظمة والقوانين وعدم مخالفتها وذلك فيما تباشره من أعمال، كما يدفعها إلى تحاشي الأخطاء التي توجب المسؤولية الإدارية.
وقد تطور القضاء الإداري في رقابته على أعمال الإدارة تطوراً ملحوظاً، حيث لم يقف عند حد بسط رقابته التقليدية بل عمل جاهداً على بسط رقابته على ملاءمة العمل الإداري، وهي تلك الرقابة التي تتسم بالرغبة في إحداث نوع من التوازن بين حق الإدارة في التمتع بقدر من السلطة التقديرية تمكنها من أداء رسالتها في تسيير المرافق العامة وأداء الخدمات وبين حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، حيث استفتح مجلس الدولة الفرنسي حركة تطوره بإسقاطه كافة حدود السلطة التقديرية المطلقة لجهة الإدارة، فمن انعدام المراقبة الكلية على هذه القرارات في ظل ما كان يعرف بالقرارات الإدارية البحتة مروراً بجواز الطعن فيها لعيب الاختصاص والشكل بالنسبة للقرارات التي كانت تسمى تقديرية ثم قبول الطعن في قرارات الإدارة التقديرية البحتة وذلك بقبوله الطعن فيها لعيب الانحراف بالسلطة أو مخالفة القانون، وبالتالي أصبحت هذه القرارات جميعاً خاضعة للرقابة القضائية.
ثم طور القاضي الإداري من رقابته على قرارات الإدارة التي تتخذها في إطار سلطتها التقديرية إلى مسألة الوجود المادي للوقائع، وتكييفها القانوني، ثم تقدير أهمية وخطورة الوقائع التي تدعيها الإدارة لقراراتها أي مسألة التناسب بين سبب القرار الإداري ومحله، وهي ما كانت تعتبر خطوة جريئة من قبل مجلس الدولة الفرنسي.
ورغم هذا التطور الذي خضعت معه جميع قرارات الإدارة لرقابة القضاء، فلم تكن كافيه للحد من السلطة التقديرية للإدارة، إذ إن الواقع العملي قد أثبت قصور بسط هذه الرقابة على العديد من القرارات ذات الصلة بحقوق الأفراد وحرياتهم، وأصبحت هذه الخطوات عاجزة عن إحداث التوازن الذي يأمله القضاء بين حق الإدارة في الاحتفاظ بقدر من السلطة التقديرية تمكنها من القيام بدورها، وبين الحفاظ على حقوق الأفراد وحرياتهم، الأمر الذي دعا هذا القضاء إلى التفكير في ضرورة تبني اتجاهات حديثة في مجال الرقابة على سلطة الإدارة التقديرية، فاستحدث رقابة الخطأ البين ورقابة الموازنة بين المنافع والأضرار والتي تعتبر من الاجتهادات الحديثة لمجلس الدولة الفرنسي، باعتبارهما يقرران قيوداً جديدة على تصرفات الإدارة وحدوداً جديدة على سلطتها التقديرية.
وهذه التطورات والاتجاهات هي ما سار عليها مجلس الدولة المصري في رقابته على السلطة التقديرية للإدارة، بل إن مجلس الدولة المصري وصل في رقابته على أعمال السلطة التقديرية للإدارة إلى أبعد مما وصل إليه مجلس الدولة الفرنسي والذي تأثر به في بداية عهده حيث تجاوزه في العديد من المجالات وكان سباقاً في إرساء بعض المبادئ والنظريات كنظرية الغلو في قضاء التأديب.
ومن هنا فقد أصبح القضاء الإداري يلعب دوراً بارزاً في تحقيق العدالة، وذلك بفرض رقابته على الإدارة عند ممارستها تلك السلطة ضماناً لعدم الانحراف والتجاوز في استخدامها، فحريتها في التقدير يمكن أن تزيغ عن الهدف الذي منحت الإدارة الحرية في التقدير من أجله حيث يمكن أن تصبح مرتعاً للتعسف والشطط ضد حقوق الأفراد وحرياتهم، وتتحول بالتالي من سلطة تقديرية إلى سلطة تحكمية استبدادية، حيث يمكن أن تضيع الحقوق بسبب ذلك وخصوصاً أن عبء إثبات إساءة الإدارة استعمال سلطتها التقديرية يكون على من يدعيه إعمالاً لقرينة الصحة المفترضة في القرارات الإدارية، وهو عبء ثقيل فكثيراً ما يكون المدعي على حق في إدعائه، ولا يعوزه الدليل على إثبات هذا الحق، بل ويزداد الأمر تعقيداً في ظل عدم وجود قضاة متخصصين في المجال الإداري.
ويمكن القول إن موضوع السلطة التقديرية يزداد أهمية في الوقت الحاضر في الجمهورية اليمنية نظراً لأسلوب النظام القضائي المتمثل في وحدة القضاء؛ حيث جاءت اتفاقية إعلان دولة الوحدة - الجمهورية اليمنية - في 22 مايو 1990م، لتعلن وحدة اندماجية بين شطري الوطن الشمالي والجنوبي، وعلى ضوء هذه الاتفاقية توحدت التشريعات وتوحد القضاء، وقد ساعد على ذلك توحد النظام القضائي الذي كان قائماً قبل الوحدة في الشطرين على أساس وحدة القضاء وليس ازدواجه. ويتولد عن هذا الأسلوب إشكاليات تتعلق بخصوصية طبيعة المنازعات التي تكون الدولة أو أحد أشخاص القانون العام طرفاً فيها، بل تزداد هذه الإشكالية في اليمن لحداثة قيام القضاء اليمني بالرقابة الفعلية على المنازعات الإدارية، حيث لم يصدر أي حكم في منازعة إدارية بالمعنى الدقيق – أي المنازعات التي تكون الإدارة طرفاً فيها بصفتها صاحبة سلطة- إلا في نهاية العام 1984م هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى كون الأعمال الصادرة عن الإدارة- والتي تتمتع فيها الإدارة بسلطة تقديرية- تتخذها الإدارة في كثير من الأحيان مطية للتحكم في رقاب الناس وإهدار حقوقهم وحرياتهم من خلال إساءة استعمال سلطتها بحجة تحقيق المصلحة العامة.
حيث يوجد كم هائل من الأحكام القضائية التي تؤكد أن للإدارة سلطة تقديرية دون معقب عليها ما دامت مستخلصة من أسباب كافية وسائغة تؤدي عقلاً إلى النتيجة التي انتهى إليها، فكثير ما نجد هذه التأكيدات كون القاضي لا يملك أن يحل محل الإدارة فهو ليس رئيساً إدارياً عليها، وتقتصر رقابته على مسائل القانون تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات، حتى أصبحت هذه المصطلحات المتقدمة كمسلمات مفترضة في أحكام القضاء دون تحديد نطاقها ومضمونها.
وما ذكرناه يبرز وبشكل واضح أهمية موضوع (السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها في الجمهورية اليمنية - دراسة مقارنة) والذي وقع عليه اختيار الباحث، ذلك لأن هذا الموضوع يثير مسائل قانونية مهمة، سواء من الجانب الفقهي، أو من جانب الفائدة العملية المرجوة، ذلك لأن موضوع السلطة التقديرية يتسم بالتجديد والتطوير، الأمر الذي يتطلب متابعة مستمرة ومتواصلة، باعتبار أنها من الموضوعات الحيوية في المجال الإداري، والتي ظلت ولا زالت محل بحث ودراسة من قبل الفقه الإداري سعياً إلى رسم حدود هذه السلطة، ومدى خضوعها للرقابة القضائية، فالإدارة على مر التاريخ تبتغي- جاهدة إلى أن تنأى بتصرفاتها وأعمالها عن رقابة القضاء، بل وتعمل دائماً على توسيع نطاق سلطتها التقديرية إلى أبعد حد، وهي تسارع في كل دعوى أمام القضاء- إلى الدفع بسلطتها التقديرية حتى لا تطولها رقابة القضاء.


Other data

Title السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها في الجمهورية اليمنية (دراسة مقارنة )
Authors سيف ناصر على الحيمي
Issue Date 2016

Attached Files

File SizeFormat
G11683.pdf1.7 MBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 48 in Shams Scholar
downloads 16 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.