عقود نقل التكنولوجيا في إطار القانون الدولي الخاص

بشار قيس محمد;

Abstract


تعد التكنولوجيا في الوقت الراهن أحد أهم الركائز التي تنهض عليها مقومات الدول الصناعية أو ما يطلق عليها الدول المتقدمة؛ فهذه الدول لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وتطور في مختلف مناحي الحياة المختلفة إلا بعد سنين طويلة من التجارب والأبحاث العلمية وما رافقها من نفقات طائلة في هذا الشأن، وقد أدى هذا بطبيعة الحال إلى وجود بعض الانعكاسات السلبية تجسدت في حصول فجوة تكنولوجية كبيرة بين الدول المتقدمة مالكة التكنولوجيا والمحتكرة لها، وبين الدول النامية، والتي هي بحاجة ماسة إلى مثل تلك التكنولوجيا، وبالتالي انفرد عدد قليل من الدول بالهيمنة على سبل المعرفة والتكنولوجيا، مما ترتب عليه تحكم هذه الدول في مصير العالم بأسره في هذا المجال.
ولتقليص هذه الفجوة والتخلص من مشاكلها الاقتصادية، ومظاهر التخلف التي رافقتها، برزت مسألة نقل التكنولوجيا باعتبارها عنصرًا أساسيًا في الحوار بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلف، وكان مرد ذلك بالنسبة للدول النامية هو قناعتها القوية والتي تولدت لديها بأهمية الدور الحاسم الذي تضطلع به التكنولوجيا في مختلف مراحل عملية التنمية الاقتصادية الشاملة.
وقد رافقت عملية نقل التكنولوجيا نشوء قواعد قانونية جديدة تتلاءم مع النمو الاقتصادي والتكنولوجي، بحيث شكلت هذه القواعد، ما اصطلح على تسميته بالنظام الدولي الاقتصادي، وكان من أهم الموضوعات التي ارتبطت بهذا الفرع الجديد من فروع القانون، عقود نقل التكنولوجيا؛ إذ تلعب هذه العقود الدولية في العصر الحديث دورًا كبيرًا في خدمة أهداف التنمية والتقدم؛ لما لديها من تأثير واسع على المحيط الذي يتم تنفيذها فيه فهي تلبي أهدافًا اجتماعية واقتصادية وسياسية في آن واحد، وضمن أطر وأهداف مختلفة تماماً عن تلك الأطر والأهداف المرتبطة بعقود الاستثمارات التقليدية، التي لا تتضمن أغلبها ميزة إدخال تقنية حديثة إلى الدول المضيفة، على خلاف الأمر بالنسبة لعقود نقل التكنولوجيا التي يكون محلها الأساسي نقل المعارف الفنية التي يفتقر إليها المتلقي.
ولعل أهم ما يتعلق بالتكنولوجيا من وجهة نظر رجل القانون، هو التنظيم القانوني لنقلها، وهذا التنظيم قد يتعلق بالنصوص القانونية والتشريعات التي يسعى المشرع إلى فرضها في هذا المجال لإلزام المتعاقدين باتباعها حماية للصالح العام واقتصاد البلاد؛ كما قد يتعلق بتنظيم العقود ذاتها التي يبرمها المتعاقدين بخصوص نقل التكنولوجيا، ويحتل التنظيم الأخير أهمية بالغة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا النوع من العقود لم يكن أساسًا وليد تشريع معين أو قضاء محدد بذاته، بل نشأت في ظل سيطرة المبدأ الذي يعرف في فقه القانون المدني بمبدأ سلطان الإرادة؛ إذ كان لهذا المبدأ كبير الأثر في نشوء إحكام عقود نقل التكنولوجيا، مما أكسب هذه القواعد طبيعة قانونية خاصة لم تكن ملائمة للعقود التي استقرت في إطار النظم القانونية الوطنية الموجودة من قبل، وبالتالي انعكس اثر ذلك على صعوبة تكييف تلك العقود ما بين عقود القانون العام وعقود القانون الخاص.
بالإضافة إلى ما سبق فإن أهم ما يميز هذه العقود: تنوع صورها تبعًا لتنوع المحل الذي ترد عليه؛ فمن هذه العقود ما ينص على نقل التكنولوجيا بجميع عناصرها، ومنها ما ينص على عنصر معين أو أكثر من عنصر؛ إذ يكون موضوعه- في هذه الحالة- تقديم خبرة أو استشارة أو جهد معين، وهذا يبدو واضحًا إذا كان الطرف المتلقي لا يملك القدرة على استيعاب واستخدام وتطوير التكنولوجيا المنقولة.
ولاشك أن الهيكلية القانونية والفنية المعقدة التي تتسم بها عقود نقل التكنولوجيا والتي تنبع من كون أحد أطراف هذا العقد هو الدولة أو إحدى هيئاتها العامة في الغالب، قد أفرزت العديد من المشاكل القانونية لتضارب مصالح أطرافها، واختلاف موازيين القوى بينهما، فضلًا عن تأثيرها المباشر على الاقتصاد القومي وخطط التنمية، ومن هنا تبرز أهمية وجود تشريعات لتنظيم عمليات نقل التكنولوجيا، وتحديد الإطار القانوني لها بهدف التأكد من حصول الدول- لا سيما النامية منها- على المطلب التكنولوجي ولضمان حماية المشروعات الوطنية من هيمنه الشركات العملاقة المالكة لأحدث المعارف التكنولوجية، لاسيما ما يتعلق بالحد من الشروط التقييدية التي يفرضها الطرف الأخير.
وتتأكد ضرورة الحرص على وجود تشريعات لنقل التكنولوجيا إلى اختلال التوازن في العلاقة العقدية بين موردي ومتلقي التكنولوجيا، فبينما يتمتع مورد التكنولوجيا بالمركز القوي والذي نتج عن امتلاكه واحتكاره للتكنولوجيا محل العقد، يكون متلقي التكنولوجيا في مركز تفاوضي ضعيف؛ لقلة خبرته، وحاجته الماسة لتلك التكنولوجيا، مما يعطي الفرصة للمورد لفرض شروطه، وبما يجعل من مرحلة التفاوض – في أحيان كثيرة - مجرده من أية قيمة؛ حيث تسلم المشروعات المتلقية بكل الشروط والنماذج العقدية التي عادة ما تصاغ باللغة الأجنبية، ويقتصر دور المستورد على التوقيع على تلك النماذج، وبالتالي يكون ملزمًا بها، وإلا كان مخلاً بالتزامه التعاقدي.
وفي حال إتمام عملية التعاقد يحاول الأطراف إدراك التنفيذ الكامل العقد، إلا أن واقع الخلافات من الأمور الطبيعية في المعاملات لاسيما في هذا النوع من العقود، والتي تستغرق زمنًا طويلًا نسبيًا؛ نظرًا لتعقد مراحل تنفيذ المشروعات وتعددها، وتدريب الأيدي العاملة على المهارات الفنية، مما يستوجب التصدي لها بروح التعاون المفترض عن طريق استخدام وسائل التسوية الودية، وذلك بهدف الاستمرار في تنفيذ البرامج المتفق عليها للتنمية التكنولوجية، وفي حال عدم نجاح وسائل التسوية في تحقيق أهدافها، يلجأ المتعاقدين لحسم منازعاتهم عن طريق وسائل أخرى كالقضاء والتحكيم الدولي، ومن هنا تظهر الحاجة إلى تحديد القانون الواجب التطبيق على العقد، فبينما تسعى الدولة المتلقية للتكنولوجيا إلى تطبيق قانونها الوطني بوصفه تعبيرا عن سيادتها الوطنية، ينفر الشخص الأجنبي الخاص والذي هو في الغالب شركة متعددة القوميات من هذا التوجه لاعتقاده بأن تطبيق القانون الوطني للدولة متلقية التكنولوجيا غالبًا ما يؤدي إلى نتائج سلبية في غير مصلحته، طالما كانت الدولة المتعاقدة تملك في كل الأوقات سلطة إلغاء العقد أو تعديله بإرادتها المنفردة بوصف هذا التعديل أو الإلغاء إنما جاء تطبيقًا لأحكام قانونها الوطني؛ لذلك يحاول الشخص الأجنبي الخاص أن يطرح حلولًا عديدة تصب في مجملها في الابتعاد عن تطبيق القانون الوطني للدولة المتعاقدة وصولًا إلى تدويلها بمختلف الوسائل والأساليب، وهذه الرغبة التي يتصارع عليها كل طرف من أطراف العقد في مجال تحديد قانون العقد موجود، سواء ارتد هذا الاختيار لمبدأ سلطان الإرادة بشقيه الصريح والضمني، أو في حالة سكوت الأطراف نهائيًا عن اختيار نظام قانون معين ليحكم عقدهم.
أولاً :أهمية موضوع البحث
تتضح أهمية دراسة موضوع البحث من عدة وجود لعل أهمها:
1- إن العالم اليوم يعيش- بحق- عصر الثورة التكنولوجيا والمعلومات، وهذا البحث يدخل بشكل أساسي ضمن مفردات هذه الثورة؛ فالواقع الذي يسود المعاملات التجارية الدولية يتلخص في هيمنة السيادة التكنولوجية في العلاقات الدولية واحتكار دول الشمال لهذه الصناعة وهذا التفوق، في حين تقف دول الجنوب عاجزة أمام هذا التفوق.
2-تبرز أهمية عقود نقل التكنولوجيا؛ نظرًا للدور الذي تلعبه في الاقتصاد القومي للدول المتلقية للتكنولوجيا، والتي غالبًا ما تكون من الدول النامية، فهذه العقود تعد الركيزة التي يتم بواسطتها بناء الهياكل الاقتصادية الثابتة وتنظيم بنيتها الأساسية لاسيما تشييد صرح صناعاتها الوطنية الثقيلة، مما جعلها تتصل بشكل وثيق بالاستثمار الأجنبي الذي تسعى غالبية الدول إلى جذبه عن طريق توفير الضمانات اللازمة لتشجيعه على القدوم إلى الاقتصاد الوطني والاستقرار في الدولة.
3- تبرز أهمية البحث القانوني في العقود الدولية لنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية والمشروعات التابعة لها، باعتباره محاولة لفهم أوجه الخلاف الحاد في مصالح واستراتيجيات مختلف أطراف السوق الدولي للتكنولوجيا، ومن ثَمَّ البحث عن الأدوات والوسائل القانونية التي من شانها التخفيف من حدة هذا التعارض وتمكين الدول النامية من بلوغ أهدافها في الحصول على المطلب التكنولوجي، كما طرح على الساحة الدولية والمتمثل في اكتساب السيطرة التكنولوجية.
4- ترجع أهمية هذا الموضوع بالنظر إلى محل عقود نقل التكنولوجيا الذي يتميز بطبيعة خاصة وتحكمه اعتبارات متناقضة، مما أثار خلافًا حول ماهية هذه العقود؛ نظرًا للخلط الذي وقع فيه البعض بينها وبين عقود الدولة الأخرى، وكذلك لعدم وجود عقد مسمى يمكن أن نطلق علية تسمية عقد نقل التكنولوجيا؛ حيث إن هذه العقود هي أقرب ما تكون إلى كونها فكرة وصفية تنطبق على مجموعة من العقود التي تتوفر فيها خصائص معينة وهو ما يستوجب أن نحدد بدقة طبيعة هذه العقود التي تقف على الحدود الفاصلة بين كل من القانون الخاص والقانون العام، أو بين القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص.
5- إن الطابع الخاص لوسائل تسوية منازعات عقود نقل التكنولوجيا وما يتصل بها من تحديد للقانون الواجب التطبيق عليها، والذي يحتل مكانة هامة في النظام القانوني الحاكم لهذه العقود، لاسيما أن العديد من الدول- ومنها العراق – لم تضع تنظيمًا خاصًا بتلك العقود؛ لذلك فإن دراسة هذه المواضيع بشكل تفصيلي قد تقدم عونا للمشروع العراقي في وضع تنظيم تشريعي مناسب لعقد نقل التكنولوجيا، خاصة وأن العراق قد تقدم بطلب الانضمام إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، وهذه الأخيرة اشترطت على العراق العمل على تعديل العديد من تشريعاته، ومنها التشريعات المتصلة بالملكية الفكرية، وذلك بهدف إيجاد تنظيم قانوني يتلاءم مع اشتراطات تلك المنظمة، بما تتطلبه من أهمية الحفاظ على مصالح الدول المتقدمة، لتوفير الحماية لصناعاتهم واختراعاتهم، ولتضع حدا لتخوفها من المنافسة غير المشروعة في كل الدول، وكل ذلك يتطلب من المشرع العراقي الحرص على أن يكون هذا التعديل متوافقًا مع اتفاقية التربس بما يتلاءم وخصوصية المجتمع العراقي وتحقيق مصالحه، لاسيما في ظل إقبال العراق على مرحلة اقتصادية جديدة يتوقع أن تنشط فيها الاستثمارات الأجنبية والعلاقات التجارية الممتدة عبر الحدود، مما يعني بالنتيجة إبرام العديد من عقود نقل التكنولوجيا والتي تستوجب حصرها في إطار قانوني محدد.
ثانياً : أهداف البحث
1- تهدف الدراسة إلى إظهار الجوانب السلبية التي يتعرض لها الطرف الضعيف في العقد- وهو في الغالب الطرف الراغب باستيراد التكنولوجيا- عند الدخول في مفاوضات لإبرام عقد نقل التكنولوجيا بسبب افتقاده للخبرة القانونية والفنية، وتأتي في مقدمة هذه السلبيات هي محاولات مورد التكنولوجيا إدراج بعض الشروط التقييدية ضمن الالتزامات التي يرتبها العقد على طرفيه، مما لذلك من آثار خطيرة على عملية نقل واكتساب التكنولوجيا، كذلك المحاولات التي يقوم بها ذات الطرف من أجل استبعاد تطبيق القانون الوطني للدولة المتلقية، رغم أنه القانون الذي اختاره الأطراف أو باعتباره القانون الذي يشكل مركز الثقل في الرابطة العقدية في حال انعدام اختيار قانون العقد، وقد لوحظ اتجاه بعض محاكم التحكيم إلى استبعاد تطبيق قانون الدولة المتعاقدة المختارة لحكم العقد، رغم استقرار مختلف النظم القانونية على ضرورة التزام القاضي أو المحكم بهذا الاختيار، وقد استند المحكمون لتبرير هذا الاستبعاد إلى العديد من الحجج سيتم التطرق إليها بين ثنايا هذه الدراسة.
2- تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على كافة جوانب العقد من خلال الوقوف على التأصيل القانوني له، وكشف حقيقة الاتجاهات الفقهية والتي تهدف إلى تمييز تلك العقود عن ما يلتبس بها من عقود التجارة الدولية، وأيضًا معرفة حقيقة النظريات والأنظمة القانونية المراد تطبيقها في هذا المجال، والذي تأثر بها كل من القضاء والتحكيم الدولي عند تسوية منازعات عقود نقل التكنولوجيا، وذلك عن طريق دراسة وتحليل منهجية القانون الدولي الخاص بشان القانون الواجب التطبيق على عقود نقل التكنولوجيا، وبالتالي تتضح الرؤية أمام المهتمين بتلك العقود، سواء أكانوا القائمين على صياغتها أم المشرعين لقوانين تتعلق بها من وجوب تحري الدقة عند صياغة تلك العقود أو القوانين واجبة التطبيق عليها، والتي تؤثر تأثيرًا مباشرًا عليها لاسيما من حيث النظام القانوني الذي تخضع له.
3- يهدف البحث إلى توجيه الأنظار إلى ضرورة تجاوز المفاهيم التقليدية السائدة في مجال نقل التكنولوجيا إلى المشروعات المتلقية في الدول النامية والبحث عن مفاهيم أكثر توافقا مع ظروف واحتياجاتها، هذه المشروعات باعتبار أن ذلك يشكل ضرورة منطقية ولازمة لتمكين الطرف المتلقي من لعب دور ايجابي وفعال في أطار العلاقات التكنولوجية الدولية.
4- تهدف الدراسة إلى تلافي القصور الذي شاب القانون العراقي في مجال عقود نقل التكنولوجيا، وذلك من خلال طرح الحلول التشريعية والقضائية والفقهية التي تناولت هذا الموضوع، والتي قد تساعد المشرع العراقي على وضع تنظيم دقيق وفعال، بحيث يكون خير عون للوقوف على التطورات الحديثة التي لحقت بتلك العقود.


Other data

Title عقود نقل التكنولوجيا في إطار القانون الدولي الخاص
Authors بشار قيس محمد
Issue Date 2016

Attached Files

File SizeFormat
G9834.pdf388.73 kBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 2,255 in Shams Scholar
downloads 745 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.