فلسفة التحرر الديني عند بيير أبيلار

غلاب عليَّو حمادة عثمان;

Abstract


صُنِفت حقبة فلسفة العصور الوسطى الأوربية في أغلب الأحيان بأنها حقبة ظلامية؛ إذ اندثر فيها دور العقل وتعاظمت الهيمنة الكنسية، إلا أن هذا يُعد حكمًا غير دقيق تاريخيًا، وفلسفيًا، ودينيًا، فلا يمكن تصور أن فترة العصور الوسطى التي امتدت من القرن الرابع الميلادي حتى القرن الرابع عشر، أي ما يقرب من عشرة قرون من الزمان، قد خلت من التفكير الفلسفي الحُر؛ وخاصة بعد ورود الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية إليها.
ولذلك، يجب علينا التفرقة بين فترتين في حقبة العصور الوسطى الأوربية، أولاهما هي الفترة التي ساد على أغلبها هيمنة اللاهوت المسيحي على العقل، وإن لم تخلو في الوقت ذاته من محاولات لإبراز أهمية التفكير الفلسفي، والتي امتدت حتى القرن الحادي عشر تقريبًا، أما الفترة الثانية، فهي الفترة التي ساد على أغلبها إبراز مكانة العقل ومحاولات التوفيق بينه وبين اللاهوت، وإن لم تخل في الوقت ذاته من محاولات لترسيخ دور اللاهوت والهيمنة الكنسية، والتي امتدت منذ بداية القرن الثاني عشر، حتى نهاية القرن الرابع عشر، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا التقسيم التأريخي هو تقسيم نسبي؛ لأن العلاقة بين العقل واللاهوت هي علاقة جدليِّة، فتارة ينتصر اللاهوت ورجاله، وتارة أخرى ينتصر العقل ورجاله، وفي سياق ذلك ظل بعض المنهزمين من اللاهوتيين والعقلانيين محافظين على موقفهم.
وفي سياق ذلك الصراع الجدلي بين العقل واللاهوت ظهر الفيلسوف الفرنسي بيير أبيلارPierre Abélard (1079- 1142م)، وطرح فلسفة يمكن أن نطلق عليها اصطلاح "فلسفة التحرر الديني" The Philosophy of Religious Liberation في بداية القرن الثاني عشر؛ ليصبح من خلالها علامة فارقة في تاريخ فلسفة العصور الوسطى الأوربية، ويمكن أن يؤرخ من خلالها ميلاد نهضة عقلانية في تلك الحقبة، وممهدًا في الوقت ذاته لعصر الإصلاح الديني وللنهضة الفكرية الحديثة والمعاصرة، وإن كان الفلاسفة الذين جاءوا بعده تراجعوا عن عقلانيته التحررية بعض الشيء، ولهذا السبب اخترت دراسة أبيلار وفلسفته عن "التحرر الديني"؛ لتكون محاولة متواضعة في كشف النقاب عن أحد أهم فلاسفة أوربا التنويريين في حقبة العصور الوسطى الأوربية هذا من ناحية، ولإثبات خطأ اعتبار فلسفة العصور الوسطى الأوربية حقبة ظلامية من ناحية أخرى.
إن "فلسفة التحرر الديني" عند أبيلار لا يقصد بها التحرر من الدين أو مهاجمته أو حتى الثورة عليه، ولا يقصد بها كذلك تبني تيارات إلحادية مخالفة للعقيدة؛ بل تعني تحرير الدين ذاته من كافة التفسيرات الدوجماطيقية، والهيمنات الكنسية، وذلك رغبة منه في تحرير المسيحية منها، هذا فضلًا عن محاولة جعل العقيدة مادة للتفكير المنطقي، وتربة خصبة لإعمال العقل، والحفاظ على المسيحية الحقة في نقائها الأول.
ولهذا، يعد أبيلار واحدًا من أهم الفلاسفة الأوروبيين، إذ عوَّل على العقل لتحقيق تفسير جديد للمسيحية، واعتمد في ذلك على منهج عقلاني سنطلق عليه إن جاز التعبير "منهج الهيرمنيوطيقا الديالكتيكية"The Method of Dialectical Hermeneutics ، وهو "منهج التأويل الجدلي"، الذي يمكن من خلاله تقديم تفسير جديد للمسيحية - عقيدة وفكر - بما يتفق والعقل من ناحية، ورافضًا في الوقت ذاته لكافة أشكال التفسيرات الكنسية التي لا تترك أي مجال لاستخدام العقل من ناحية أخرى.
ولم يكتف أبيلار بطرح منهج "الهيرمنيوطيقا الديالكتيكية" فحسب، بل طبقه على كل من: فكر آباء الكنيسة، والأخلاق ، والعقائد المسيحية، والتي من أهمها: الخطيئة الأصلية، والفداء، والمعمودية، وكذلك على التراث السابق للمسيحية، هذا فضلًا عن قضية الألوهية وخاصة إشكالية الثالوث، ليخرج بتفسيرات عقلانية جديدة تُعد في حقيقة الأمر ثورة دينية وفكرية على ما كان سائدًا آنذاك من التقديس المطلق للتراث العقائدي والفكري، وداعيًا في الوقت ذاته لتجديد الفكر والخطاب الديني، ولهذا فإن أبيلار على الرغم من أنه ينتمي تاريخيًا لفترة العصور الوسطى الأوربية، إلا أنه يقترب فكريًا من الفلاسفة المحدثين والمعاصرين، فكان بذلك سابقًا لعصره، ولهذا فقد اتهم بالهرطقة، وهو حال كثير من المفكرين قديمًا وحديثًا، خاصة عندما يكون الفكر سابقًا للعصر.


Other data

Title فلسفة التحرر الديني عند بيير أبيلار
Other Titles Pierre Abelard's Philosophy of Religious Liberation
Authors غلاب عليَّو حمادة عثمان
Issue Date 2020

Attached Files

File SizeFormat
BB12968.pdf1.06 MBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 1 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.