التوجيه البلاغي للغريب في الحديث النبوي دراسة في أحاديث مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي

كريم محمد محمد صديق;

Abstract


إن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للفظ الغريب ليس قصدًا للإبهام ولا تعمدًا للإغراب ، ولكنه إصابة لكبد المعنى ، إنها كلمات يحتاجها السياق ويدعو إليها الموقف ، إنه الأسلوب النبوي الذي بلغ المنتهى في البلاغة والفصاحة, وحسبه من تزكية الله -عز وجل - له في قوله "وما ينطق عن الهوى" ( 1 )، فالاختيارات النبوية اختيارات مبنية على دراية شديدة بلغة العرب ، فهي لم توضع خبط عشواء ولكنها وضعت بعناية بالغة ودقة متناهية لتلائم معايير الفصاحة في اللسان العربي .

تظهر عناية الشرع الشديدة باختيار اللفظ المناسب للسياق من خلال أول نداء للمؤمنين في القرآن قاطبة حيث يقول الله - عز وجل - في سورة البقرة : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا..." ( 2 ) " وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَ الْمُرَاعَاةِ أَيْ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، أَيْ فَرِّغْ سَمْعَكَ لِكَلَامِنَا، يُقَالُ: أَرْعَى إِلَى الشَّيْءِ، وَرَعَاهُ، وَرَاعَاهُ، أَيْ أَصْغَى إِلَيْهِ وَاسْتَمَعَهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ شَيْئًا قَبِيحًا بِلُغَةِ الْيَهُودِ، وَقِيلَ: كَانَ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمُ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ " ( 3 ) .




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) سورة النجم الآية 3
( 2 ) سورة البقرة اللآية 104 .
( 3 ) أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي – تفسير البغوي – ج1 ص152 – دار إحياء التراث العربي – بيروت – ط1 1420 هـ .
" وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الرُّعُونَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا قَالُوا لَهُ: رَاعِنَا بِمَعْنَى يَا أَحْمَقُ! فَلَمَّا سَمِعَ الْيَهُودُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: كُنَّا نَسُبُّ مُحَمَّدًا سِرًّا، فَأَعْلِنُوا بِهِ الْآنَ، فَكَانُوا يَأْتُونَهُ وَيَقُولُونَ: رَاعِنَا يَا مُحَمَّدُ، وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَسَمِعَهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَفَطِنَ لَهَا، وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ، فَقَالَ لِلْيَهُودِ: لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ يَقُولُهَا لِرَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَقَالُوا: أَوْلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى " لَا تَقُولُوا رَاعِنَا " ( 1 ) ( 2 ) .

بلغت عناية الشرع بالألفاظ لدرجة أن جعل النداء الأول في ترتيب القرآن بحسب الورود في المصحف هو لبيان مدى أهمية اختيار اللفظ المناسب للسياق, والعدول عن اللفظ الذي يحمل أكثر من معنى إلى لفظ أخر لا يحتمل ذلك .

هذه العناية لم تكن في القرآن فحسب بل في السنة أيضا ، نرى النبي صلى الله عليه وسلم يعدل عن اللفظ الشائع إلى لفظ آخر غريب ليس إلا لدلالة الغريب على المعنى أكثر من الشائع ، يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ( 3 ) .

قال الطيبي : " ( لقست ) أي غثت واللقس الغثيان، وإنما كره ( خبثت ) هربا من لفظ الخبث والخبيث، واللقس أيضا السيء الخلق، وقيل: الشحيح، ولقست نفسه إلى الشيء إذا حرصت عليه ونازعته عليه ، إنما كره لفظ الخبث لشناعته " ( 4 ) .

" وجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفك الرَّقَبَة» . قَالَ: أَو ليسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: " لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ: أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ: أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا .....". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شعب الْإِيمَان ( 5 ) .





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) سورة البقرة الآية 104 .
( 2 ) تفسير البغوي – ج1 ص152 .
( 3 ) محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي – مشكاة المصابيح – ج3 ص1346 – المكتب الإسلامي - بيروت – تحقيق محمد ناصر الدين الألباني – ط3 - 1985 .
( 4 ) الطيبي – شرح مشكاة المصابيح – ج10 ص3090– تحقيق د/ عبد الحميد هنداوي – مكتبة نزار مكة – ط1 1997 .
( 5 ) محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي – مشكاة المصابيح – ج2 ص1010 .
قال الطيبي : " ووجه الفرق المذكور أن العتق إزالة الرق، وذلك لا يكون إلا من المالك الذي يعتق، وأما الفك فهو السعي في التخليص، فيكون من غيره كمن أدى النجم عن المكاتب أو أعانه فيه ". ( 1 )

فبين النبي صلى الله عليه وسلم للسائل الفرق بين العتق والفك فبينهما من الفروق ما بينهما مما جعل النبي صلى الله عليه يعطف إحداهما على الأخرى ، والعطف يقتضي المغايرة .

لذا فقد جاء هذا البحث ليلقي الضوء على الألفاظ الغريبة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجة هذه الألفاظ معالجة بلاغية وأسلوبية من خلال إبراز النواحي الجمالية في هذه الكلمات وبيان إسهامها في أداء المعنى بصورة أدبية راقية تتناسب مع قائل النص الذي هو أفصح العرب قاطبة منذ فتق لسانها بالعربية إلى قيام الساعة .

ولأن دواوين السنة بحر لا ساحل له فقد اخترت كتابًا واحدًا من كتب الحديث لأعمل فيه جهدي وهو كتاب " مشكاة المصابيح " الذي جمعه ولي الدين أبو عبد الله ، محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي ، أحد علماء القرن الثامن الهجري ، حيث نظر الخطيب التبريزي في كتاب ( مصابيح السنة ) الذي جمعه أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي المتوفى سنة 516 هـ أو 510 هـ فكمله وهذبه وشذبه وعين رواته ونسب الحديث إلى الأئمة المتقنين وقسمه أبوابه إلى فصول ، وقد انتهى من تصنيف الكتاب وجمعه سنة 737 هـ ، ولا يعلم على وجه الدقة تاريخ وفاته .

وسبب اختيار هذا الكتاب تحديدًا هو تصدي إمام من أئمة البلاغة لشرح الكتاب ، فلسنا بصدد البحث عن الأحكام الفقهية والحديثية في الأحاديث في هذا البحث ، وإنما الغرض الأساسي هو البحث عن القيمة البلاغية للألفاظ الغريبة ، فالتمسناها فوجدناها عند أهلها من أهل هذا الفن ، وهو الإمام العلم صاحب التصانيف البلاغية الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي ، المتوفى سنة 743 هـ ، الذي أطال النفس في بيان مدى ملاءمة الكلمات الغريبة لموقعها من السياق بعد شرحها وتمييزها عن مثيلاتها التي تؤدي المعنى أو قريبًا منه ( 2 ) .





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) الطيبي – شرح مشكاة المصابيح – ج8 ص2426 .
( 2 ) اعتمدت في بيان أسماء المؤلفين وسنة وفاتهم على كتاب الطيبي – شرح مشكاة المصابيح – ج1 ص18 – 29 – 33 – تحقيق د/ عبد الحميد هنداوي – مكتبة نزار مكة – ط1 1997 .
ثم قمت بقراءة كتاب ( مشكاة المصابيح ) قراءة واعية واستخرجت ما به من ألفاظ غريبة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم , ولكني لم أشأ أن أجعل من نفسي حكمًا على غرابة اللفظ من عدمها ؛ فإن معيار الغرابة نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان , فعمدت إلى كتب غريب الحديث فجعلتها بغيتي في معرفة كون الكلمة من الغريب أو لا , فهي الكتب التي ألفت قريبا من زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمقارنة بزمننا , وأصحابها هم أدرى الناس بلغة العرب , ولكن الغريب أيضا بهذا الشكل كان من الكثرة بمكان , فاخترت منه ما وجدت في شرحه النكات البلاغية والحُلل البيانية والتفسيرات الأسلوبية , فإن هذا هو عماد الرسالة وصلب موضوعها . واللهَ أسالُ التوفيقَ والسداد في القول والعمل .


Other data

Title التوجيه البلاغي للغريب في الحديث النبوي دراسة في أحاديث مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي
Authors كريم محمد محمد صديق
Issue Date 2016

Attached Files

File SizeFormat
V22.pdf251.39 kBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 139 in Shams Scholar
downloads 97 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.