مسرح العبث عند مليح جودت آنداي دراسة نقدية تطبيقًا على مسرحيات: "غدا في بستان آخر"، "انتبه، يوجد كلب"، "الموتى يريدون التحدث"، "المفتشــــون"
أحمد نور الدين أحمد عثمان;
Abstract
علم المسرح؛ هو ذلك العلم الذي شغل أذهان الكثيرين من ألمع النقاد والفلاسفة في عالم الأدب منذ أن انبلج فجر الفن المسرحي في سماء أوروبا من اليونان القديمة حتى العصر الحديث. وليس من العسير إدراك السبب في ذلك؛ فالمسرحية كما لا يخفى على أحد هي أغرب طرز الآداب جميعًا وأعصاها على الفهم؛. فهي تتصل اتصالاً وثيقًا بكل ما في دنيا المسرح من مادة كما تعتمد اعتمادًا كليًا على جميع ما يشتمل عليه هذا العالم... على جماهيره المكتظة وعلى شنف الناس بها في جميع أصقاع الأرض؛ وهي تثوي في خاطر الشعب وبين جوانحه حيث تنبت ثمة أصولها ثم تنمو وتزدهر.
والمورد الذي تستقي منه جميع الدراسات الحقّة عناصرها الجوهرية لتلك الصورة المسرحية من صور الأدب كما هو معروف كتاب "فن الشعر" لأرسطو وهو الكتاب الذي ظلّ الناس يتدارسونه على مدار أحقاب طويلة بوصفه من كتب الأمهات في هذا الفن؛ فكانوا في عصر النهضة يتحمسون له ويجلونه إجلالاً لا يرقى إليه النقد كما تناوله النقاد في العصر الحديث بالبحث والتقدير.( )
جدير بالذكر أن المسرح هو أحد أبرز الفنون الأدبية التي تهتم بإعلاء الشأن الثقافي للمجتمع ومنح الفرد هوية وشخصية مميزة؛ فالمسرح يضطلع بدور ريادي في تثقيف الشعوب والنهوض بها أخلاقيًا وثقافيًا واجتماعيًا. والمسرح أيضًا أحد المؤشرات الجوهرية الدالة على الحياة الأدبية والثقافية للمجتمع كما أنّه فنُّ أدبي رفيع يتابع أحداث الحياة عن كثب ويتأثر بشكل كبير بكل الأحداث العالمية والسياسية والاجتماعية التي تحدث في العالم أو البيئة المحيطة به، ويقدّم نتاجاته وفقًا لذلك. وقد ظهر فن المسرح منذ القدم وأبرز تطورًا ملحوظًا على مدار التاريخ.
إن فن المسرح الذي يتعقّب ويتابع الأحداث المُعاشة والأحوال والوقائع يومًا بيومٍ تقريبًا، يشبه حياة الإنسان المتبدلة والمُتغيرة؛ فهو يميل للتبدّل والتغيّر في كل لحظة. ولهذا السبب فإن كل حادثة أو واقعة عالمية أو قومية تحدث يكون لها أثرُ في المجتمع التي تحدث فيه، وتأثيرها في الناس ينعكس بشكل جلي في المسرح وتجد تلك الأحداث لنفسها صدى واسع على المسرح.
مرّ فن المسرح منذ بدايته وحتى يومنا هذا بمجموعة من التغييرات من ناحية الشكل والمضمون. وقد بيّن أرسطو السمات المشتركة للمسرح وحددها في كتابه المُسمى " فن الشعر"، واستمر تأثير المسرح الواقعي الذي ينظر إلى المسرح بوجه عام على أنه "مرآة للحياة" حتى الحرب العالمية الأولى، ونتيجة للحرب بدأ يحدث في أوروبا عدة تغييرات في مجالي الأدب والفن. وبدأ بعض الكتاب يعتنقون مفهومًا مسرحيًا غير مُعتاد يجابه قواعد المسرح التقليدي والواقعي والملحمي من ناحية الشكل والمضمون. ونتيجة للثورة الصناعية أيضًا بدأ الناس يشعرون بالغربة تجاه أنفسهم وتجاه بعضهم بعضًا، وشرعوا في مواصلة حيواتهم بشكل غير منطقي وغير مفهوم. وقد ارتبطت هذه الأحداث والوقائع المعاشة في الحياة الاجتماعية بالأدب، ونتيجة لذلك ظهرت الآثار الأدبية لمسرح العبث التي تناولت العبثية واللامعقول والتغرب على أنه حالة من حالات الإنسانية.
إن مسرح العبث هو أحد التيارات الحديثة في الأدب العالمي حيث كانت نشأته في الخمسينيات من القرن العشرين في فرنسا حيث ظهرت حركة مسرحية تثور وتتمرد على كل ما هو مألوف وتدّعي أنّ كل شيء في هذه الحياة عبثُ وليس له أي قيمة، وأن الإنسان يعيش في عزلة عمن حوله؛ بل إنه في غربة حتى عن نفسه؛ بسبب التكرار الرتيب لأحداث الحياة اليومية والبعد عن مظاهر الطبيعة وعجز المذاهب السائدة - ممثلة في "الواقعية والرومانسية" عن الإجابة على أسئلة العصر. وكان لظهور هذا المسرح عدة أسباب كان أبرزهاا هي الحربان العالميتانة الأولى والثانية وما كان لهما من بالغ الضرر على البشرية وما خلفتهما من آثار على الفكر الأوروبي حيث تزعزت الثقة في الإنسان وفقد الإنسان الأمل في الحياة. هذا بالإضافة إلى هيمنة الأنظمة الشمولية على معظم بلدان العالم في فترة الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. وقد دعا مسرح العبث إلى التخلص من قيود المذهب الواقعي والطبيعي، وكسر قوقعة النفاق والآلية التي أحاط الإنسان الحديث بهما نفسه وتنبيهه إلى ضرورة العودة للتقصي عن الحقائق الأصولية في الحياة والوجود.
دخل مسرح العبث إلى تركيا في الخمسينيات من القرن العشرين؛ ففي تلك السنوات عُرضت على المسارح التركية الكبرى مسرحيات لكل من يوجين يونسكو وصمويل بيكيت وأرثر آداموف الذين اعتبرهم النقاد وقيموهم على أنهم كتاب لمسرح العبث من ناحية مجموعة من الخصائص في أعمالهم الأدبية على الرغم من عدم اعترافهم بأنهم ممثلون لهذا التيار. وفي تلك الفترة أيضًا قدمت عدة مسارح تركية مثل (مسرح الفن بأنقرة - Ankara Sanat Tiyatrosu)( )، و(مسرح شباب المسرحيين - Genç Oyuncular Tiyatrosu)، و(مسرح عائلة الكنتر- Kenterler Tiytrosu)( ) مسرحيات لكل من يونسكو وبيكيت.( )
ويرمي هذا البحث إلى توضيح أثر مسرح العبث في الأدب التركي من خلال دراسة أحد كُتّاب مسرح العبث في تركيا وهو الكاتب المسرحي والشاعر التركي "مليح جودت آنداي" الذي يُعد أحد أبرز كتاب مسرح العبث في تركيا. جدير بالذكر أن مسرح مليح جودت آنداي يتفق بشكل كبير مع مسرح صموئيل بيكيت أبرز رواد مسرح العبث من الناحية الدلالية والبنائية حيث إن الحياة لدى كلا الكتاتبين هي مسيرة تبدأ بالعدم وتنتهي به...
سعى مليح جودت آنداي لإظهار التأثير القمعي للمجتمع على الفرد من خلال مسرحياته الأربع المسماه (انتبه، يوجد كلب - Dikkat Köpek Var)، و(غدا في بستان آخر- Yarın Başka Koruda)، و(الموتى يريدون التحدث -Ölüler Konuşmak İster)، و(المفتشون - Müfettişler) التي تقوم الدراسة عليها، واستخدم آنداي عناصر العبث بكثرة في هذه المسرحيات سواء من ناحية الأفكار والمضمون والمواضيع وسواء من ناحية شكل البناء الدرامي من حيث الحدث والشخصيات والزمان والمكان واللغة والحوار.
وقد قسمت البحث إلى مبحث تمهيدي وبابين فضلاً عن المقدمة والخاتمة. تناولت في المبحث التمهيدي حياة الكاتب التركي مليح جودت آنداي وثقافته وتأثره بمسرح العبث والمراحل المختلفة لتطور مسرحه كما تناولت في التمهيد أيضًا مسرح العبث نشأته وأثره في المسرح التركي.
أما فيما يخص الباب الأول فقد تحدثت فيه عن الأفكار الرئيسة في مسرح مليح جودت آنداي وتأثير العبث فيها وينقسم الباب الأول إلى خمسة فصول تناولت في الفصل الأول منها الأخلاق وصراع القيم الاجتماعية حيث تناولت الأخلاق والقيم في المسرحيات الأربع التي هي موضوع الدراسة.
وتناولت في الفصل الثاني قضية الحياة والموت التي تعد من أبرز موضوعات مسرح العبث حيث إن انعدام المعنى في الحياة والموت المكتوب على الإنسان من أبرز المواضيعوضوعات التي تم الوقوف عليها في مسرح العبث كثيرًا؛ فإدراك المرء أن الموت هو نهاية حتمية لا مفر منها وأن كل شيء في هذه الدنيا سينتهي بالموت هو أكثر عامل يدفع الإنسان إلى الشعور بالعبث؛ فالإحساس بالموت؛ وأن كل شيء سينتهي ويفنى وحادثة الموت نفسها هي المصدر الرئيس للعبث فالحقيقة المطلقة في قدر الإنسان هي الموت؛ فكل الموجودات الحية سيؤل مصيرها إلى الموت حتى الأشياء هي الأخرى تموت وتفنى. وهذا الشعور يؤكد على عدم جدوى الحياة وغياب معناها، وضياع معنى الأشياء التي تٌعاش وقد ظهر ذلك بوضوح في مسرحية "الموتى يريدون التحدث" و"المفتشون".
أما الفصل الثالث فقد احتوى على العلاقة بين الرجل والمرأة وطبيعة العلاقة بينهما. وتناولت في الفصل الرابع موضوع الخوف والقلق الذي ظهر جليًا في المسرحيات لاسيما مسرحية "انتبه يوجد كلب" حيث ظهر الخوف في عدة أشياء، أذكر منها خوف الشاب من الكلب، وخوف سكان المنزل من إحداث تغيير داخل النظام الذي يعيشون فيه. كما ظهر الخوف والقلق أيضًا بوضوح في مسرحية "المتفتشون" حيث يسيطر الخوف والقلق على الزوجه منذ بداية المسرحية وحتى نهايتها؛ فمسرح العبث يزخر بحالة الإحساس بالقلق نحو الوجود وهذا الإحساس يتم التعبير عنه بواسطة بنى لا منطقية للوضع الإنساني؛ حيث يعلن كتاب مسرح العبث رفضهم للتدابير الفعلية والنقد الجدلي ويتّبعون شكلاً غرائبيًا خاليًا من الهدف ينبعث منه النشاز ولا معقولية الأحداث ضمن أجواء من انعدام التناسق تفجّر الضحِك من قلب المأساة فكتاب العبث يتخذون من الكوابيسِ والأحلامِ مرتكزًا أساسيًا في بناء نصوصهم الأدبية وهم بذلك يسيرون على خطى السرياليين والتعبيريين إلى حد ما.
وفي الفصل الخامس تحدثت عن الغموض والرمز الذي هو سمة أساسية من سمات مسرح العبث وقد تجلى بذلك في مسرحيات مليح جودت آنداي من خلال الإشارة لبعض الأحداث السياسية وأحوال الدولة والمجتمع التركي.
وحتى تبلغ الدراسة غايتها وهدفها تناولت في الباب الثاني عناصر البناء الدرامي في مسرحيات مليح جودت آنداي. جدير بالذكر أن مسرح العبث هو واحد من أكثر التيارات المسرحية الحديثة تحررًا من القواعد وتجاوزًا لأصول الدراما التقليدية؛ فمسرح العبث يهمل العناصر المنطقية في البناء الدرامي من صنعة العقدة ومحاكاة الواقع وعرض بواعث الشخصيات ودوافع تصرفها ويركز على قوة الإيحاء بالصور؛ فهذا النمط المسرحي يهدف إلى التخلص من كل القواعد الثابتة والمألوفة، ومن كل ما هو مقبول ومُخصص لتصوير وعكس الحقيقة؛ فمسرح العبث لا يلتزم ببنية المسرحية التقليدية؛ فقد خرج هذا المسرح عن قواعد وأسس المسرح التقليدي فمسرحيات العبث لا يكاد يوجد بها حدث أو حبكة وتفتقر إلى وحدة الموضوع.
قمت بتقسيم هذا الباب إلى خمسة فصول تناولت في الفصل الأول منها الحدث، وتعد مسرحيات مليح جودت آنداي كسائر مسرحيات تيار العبث ليس لها نهاية أو رسالة سعيدة؛ لكن مسرحيات آنداي تتميز عن المسرحيات الأخرى المنتمية لتيار العبث بأنها ذات بنية وحركة واضحة من ناحية تطور الأحداث.
أما الفصل الثاني فتحدثت فيه عن الشخصيات؛ فالشخصية في مسرح العبث أو اللامعقول تختلف أيضًا عن الشخصية في المسرح التقليدي؛ فالشخصيات في مسرح العبث لا وحدة لها.
أما الفصل الثالث فقد تحدثت فيه عن الزمان حيث إن فلسفة العبث ترى أن الحياة عبارة عن مواقف متشابهة تتكرر كل يوم أاو خلال دورة الزمن؛ فالأيام متشابهة ولا تختلف عن بعضها وأحداث الحياة اليومية تتكرر لدرجة أن أبعاد الزمن الثلاثة هى الأخرى تتشابه مع بعضها؛ فالمستقبل يصير حاضرًا والماضي يصبح مستقبلاً في كثير من المواقف كما أن المستقبل يمكن أن يغدو ماضيًا مجدبًا لا نفع فيه وكل ذلك يعني أنه لا جدوى ترتجى من هذا الزمن وأبعاده فروتين الحياة اليومية الذي لا جديد فيه يستمر مارًا في الزمن دون حصول أي تغيير لذا يبدو الزمن والحركة الزمنية متوقفة في مسرح العبث وقد ظهر ذلك بوضوح في مسرحيات آنداي. وفي الفصل الرابع تحدثت عن المكان في مسرح العبث.
أما الفصل الخامس فتناولت فيه اللغة والحوار؛ فمسرح العبث لا يعتمد على اللغة التقليدية في نصوصه، ويبين أنها أداة لا يمكن الاعتماد عليها، وأنها غير كافية لاستخدامها كوسيلة من وسائل الاتصال حيث تستخدم دراما العبث لغة مشوشة ويقدم اللغة الاصطلاحية بوصفها تعمل كحاجز بين الذات وبين الحقيقة، وقد تجلى ذلك أيضا في مسرحيات آنداي.
اعتمدت في هذا البحث على المنهج النقدي مع تحليل النصوص بشكل رئيس كما لجأت أيضًا إلى المنهج التاريخي عند التأصيل لمسرح العبث وجذوره وأيضًا عند الحديث عن حياة الكاتب التركي مليح جودت آنداي وحياته وتطور مسرحه.
وفي النهاية تأتي الخاتمة التي استخلصت فيها مجموعة النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
وقد واجهتني كثير من الصعوبات في هذا البحث أذكر منها:
1. عدم عثوري على دراسات سابقة في هذا الموضع داخل الجامعات والمكتبات المصرية.
2. ندرة المصادر والمراجع التي تتحدث عن مسرح العبث في الأدب التركي والعربي وعدم تمكني من الاضطلاع على بعض الرسائل الموجودة في الجامعات التركية.
والمورد الذي تستقي منه جميع الدراسات الحقّة عناصرها الجوهرية لتلك الصورة المسرحية من صور الأدب كما هو معروف كتاب "فن الشعر" لأرسطو وهو الكتاب الذي ظلّ الناس يتدارسونه على مدار أحقاب طويلة بوصفه من كتب الأمهات في هذا الفن؛ فكانوا في عصر النهضة يتحمسون له ويجلونه إجلالاً لا يرقى إليه النقد كما تناوله النقاد في العصر الحديث بالبحث والتقدير.( )
جدير بالذكر أن المسرح هو أحد أبرز الفنون الأدبية التي تهتم بإعلاء الشأن الثقافي للمجتمع ومنح الفرد هوية وشخصية مميزة؛ فالمسرح يضطلع بدور ريادي في تثقيف الشعوب والنهوض بها أخلاقيًا وثقافيًا واجتماعيًا. والمسرح أيضًا أحد المؤشرات الجوهرية الدالة على الحياة الأدبية والثقافية للمجتمع كما أنّه فنُّ أدبي رفيع يتابع أحداث الحياة عن كثب ويتأثر بشكل كبير بكل الأحداث العالمية والسياسية والاجتماعية التي تحدث في العالم أو البيئة المحيطة به، ويقدّم نتاجاته وفقًا لذلك. وقد ظهر فن المسرح منذ القدم وأبرز تطورًا ملحوظًا على مدار التاريخ.
إن فن المسرح الذي يتعقّب ويتابع الأحداث المُعاشة والأحوال والوقائع يومًا بيومٍ تقريبًا، يشبه حياة الإنسان المتبدلة والمُتغيرة؛ فهو يميل للتبدّل والتغيّر في كل لحظة. ولهذا السبب فإن كل حادثة أو واقعة عالمية أو قومية تحدث يكون لها أثرُ في المجتمع التي تحدث فيه، وتأثيرها في الناس ينعكس بشكل جلي في المسرح وتجد تلك الأحداث لنفسها صدى واسع على المسرح.
مرّ فن المسرح منذ بدايته وحتى يومنا هذا بمجموعة من التغييرات من ناحية الشكل والمضمون. وقد بيّن أرسطو السمات المشتركة للمسرح وحددها في كتابه المُسمى " فن الشعر"، واستمر تأثير المسرح الواقعي الذي ينظر إلى المسرح بوجه عام على أنه "مرآة للحياة" حتى الحرب العالمية الأولى، ونتيجة للحرب بدأ يحدث في أوروبا عدة تغييرات في مجالي الأدب والفن. وبدأ بعض الكتاب يعتنقون مفهومًا مسرحيًا غير مُعتاد يجابه قواعد المسرح التقليدي والواقعي والملحمي من ناحية الشكل والمضمون. ونتيجة للثورة الصناعية أيضًا بدأ الناس يشعرون بالغربة تجاه أنفسهم وتجاه بعضهم بعضًا، وشرعوا في مواصلة حيواتهم بشكل غير منطقي وغير مفهوم. وقد ارتبطت هذه الأحداث والوقائع المعاشة في الحياة الاجتماعية بالأدب، ونتيجة لذلك ظهرت الآثار الأدبية لمسرح العبث التي تناولت العبثية واللامعقول والتغرب على أنه حالة من حالات الإنسانية.
إن مسرح العبث هو أحد التيارات الحديثة في الأدب العالمي حيث كانت نشأته في الخمسينيات من القرن العشرين في فرنسا حيث ظهرت حركة مسرحية تثور وتتمرد على كل ما هو مألوف وتدّعي أنّ كل شيء في هذه الحياة عبثُ وليس له أي قيمة، وأن الإنسان يعيش في عزلة عمن حوله؛ بل إنه في غربة حتى عن نفسه؛ بسبب التكرار الرتيب لأحداث الحياة اليومية والبعد عن مظاهر الطبيعة وعجز المذاهب السائدة - ممثلة في "الواقعية والرومانسية" عن الإجابة على أسئلة العصر. وكان لظهور هذا المسرح عدة أسباب كان أبرزهاا هي الحربان العالميتانة الأولى والثانية وما كان لهما من بالغ الضرر على البشرية وما خلفتهما من آثار على الفكر الأوروبي حيث تزعزت الثقة في الإنسان وفقد الإنسان الأمل في الحياة. هذا بالإضافة إلى هيمنة الأنظمة الشمولية على معظم بلدان العالم في فترة الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. وقد دعا مسرح العبث إلى التخلص من قيود المذهب الواقعي والطبيعي، وكسر قوقعة النفاق والآلية التي أحاط الإنسان الحديث بهما نفسه وتنبيهه إلى ضرورة العودة للتقصي عن الحقائق الأصولية في الحياة والوجود.
دخل مسرح العبث إلى تركيا في الخمسينيات من القرن العشرين؛ ففي تلك السنوات عُرضت على المسارح التركية الكبرى مسرحيات لكل من يوجين يونسكو وصمويل بيكيت وأرثر آداموف الذين اعتبرهم النقاد وقيموهم على أنهم كتاب لمسرح العبث من ناحية مجموعة من الخصائص في أعمالهم الأدبية على الرغم من عدم اعترافهم بأنهم ممثلون لهذا التيار. وفي تلك الفترة أيضًا قدمت عدة مسارح تركية مثل (مسرح الفن بأنقرة - Ankara Sanat Tiyatrosu)( )، و(مسرح شباب المسرحيين - Genç Oyuncular Tiyatrosu)، و(مسرح عائلة الكنتر- Kenterler Tiytrosu)( ) مسرحيات لكل من يونسكو وبيكيت.( )
ويرمي هذا البحث إلى توضيح أثر مسرح العبث في الأدب التركي من خلال دراسة أحد كُتّاب مسرح العبث في تركيا وهو الكاتب المسرحي والشاعر التركي "مليح جودت آنداي" الذي يُعد أحد أبرز كتاب مسرح العبث في تركيا. جدير بالذكر أن مسرح مليح جودت آنداي يتفق بشكل كبير مع مسرح صموئيل بيكيت أبرز رواد مسرح العبث من الناحية الدلالية والبنائية حيث إن الحياة لدى كلا الكتاتبين هي مسيرة تبدأ بالعدم وتنتهي به...
سعى مليح جودت آنداي لإظهار التأثير القمعي للمجتمع على الفرد من خلال مسرحياته الأربع المسماه (انتبه، يوجد كلب - Dikkat Köpek Var)، و(غدا في بستان آخر- Yarın Başka Koruda)، و(الموتى يريدون التحدث -Ölüler Konuşmak İster)، و(المفتشون - Müfettişler) التي تقوم الدراسة عليها، واستخدم آنداي عناصر العبث بكثرة في هذه المسرحيات سواء من ناحية الأفكار والمضمون والمواضيع وسواء من ناحية شكل البناء الدرامي من حيث الحدث والشخصيات والزمان والمكان واللغة والحوار.
وقد قسمت البحث إلى مبحث تمهيدي وبابين فضلاً عن المقدمة والخاتمة. تناولت في المبحث التمهيدي حياة الكاتب التركي مليح جودت آنداي وثقافته وتأثره بمسرح العبث والمراحل المختلفة لتطور مسرحه كما تناولت في التمهيد أيضًا مسرح العبث نشأته وأثره في المسرح التركي.
أما فيما يخص الباب الأول فقد تحدثت فيه عن الأفكار الرئيسة في مسرح مليح جودت آنداي وتأثير العبث فيها وينقسم الباب الأول إلى خمسة فصول تناولت في الفصل الأول منها الأخلاق وصراع القيم الاجتماعية حيث تناولت الأخلاق والقيم في المسرحيات الأربع التي هي موضوع الدراسة.
وتناولت في الفصل الثاني قضية الحياة والموت التي تعد من أبرز موضوعات مسرح العبث حيث إن انعدام المعنى في الحياة والموت المكتوب على الإنسان من أبرز المواضيعوضوعات التي تم الوقوف عليها في مسرح العبث كثيرًا؛ فإدراك المرء أن الموت هو نهاية حتمية لا مفر منها وأن كل شيء في هذه الدنيا سينتهي بالموت هو أكثر عامل يدفع الإنسان إلى الشعور بالعبث؛ فالإحساس بالموت؛ وأن كل شيء سينتهي ويفنى وحادثة الموت نفسها هي المصدر الرئيس للعبث فالحقيقة المطلقة في قدر الإنسان هي الموت؛ فكل الموجودات الحية سيؤل مصيرها إلى الموت حتى الأشياء هي الأخرى تموت وتفنى. وهذا الشعور يؤكد على عدم جدوى الحياة وغياب معناها، وضياع معنى الأشياء التي تٌعاش وقد ظهر ذلك بوضوح في مسرحية "الموتى يريدون التحدث" و"المفتشون".
أما الفصل الثالث فقد احتوى على العلاقة بين الرجل والمرأة وطبيعة العلاقة بينهما. وتناولت في الفصل الرابع موضوع الخوف والقلق الذي ظهر جليًا في المسرحيات لاسيما مسرحية "انتبه يوجد كلب" حيث ظهر الخوف في عدة أشياء، أذكر منها خوف الشاب من الكلب، وخوف سكان المنزل من إحداث تغيير داخل النظام الذي يعيشون فيه. كما ظهر الخوف والقلق أيضًا بوضوح في مسرحية "المتفتشون" حيث يسيطر الخوف والقلق على الزوجه منذ بداية المسرحية وحتى نهايتها؛ فمسرح العبث يزخر بحالة الإحساس بالقلق نحو الوجود وهذا الإحساس يتم التعبير عنه بواسطة بنى لا منطقية للوضع الإنساني؛ حيث يعلن كتاب مسرح العبث رفضهم للتدابير الفعلية والنقد الجدلي ويتّبعون شكلاً غرائبيًا خاليًا من الهدف ينبعث منه النشاز ولا معقولية الأحداث ضمن أجواء من انعدام التناسق تفجّر الضحِك من قلب المأساة فكتاب العبث يتخذون من الكوابيسِ والأحلامِ مرتكزًا أساسيًا في بناء نصوصهم الأدبية وهم بذلك يسيرون على خطى السرياليين والتعبيريين إلى حد ما.
وفي الفصل الخامس تحدثت عن الغموض والرمز الذي هو سمة أساسية من سمات مسرح العبث وقد تجلى بذلك في مسرحيات مليح جودت آنداي من خلال الإشارة لبعض الأحداث السياسية وأحوال الدولة والمجتمع التركي.
وحتى تبلغ الدراسة غايتها وهدفها تناولت في الباب الثاني عناصر البناء الدرامي في مسرحيات مليح جودت آنداي. جدير بالذكر أن مسرح العبث هو واحد من أكثر التيارات المسرحية الحديثة تحررًا من القواعد وتجاوزًا لأصول الدراما التقليدية؛ فمسرح العبث يهمل العناصر المنطقية في البناء الدرامي من صنعة العقدة ومحاكاة الواقع وعرض بواعث الشخصيات ودوافع تصرفها ويركز على قوة الإيحاء بالصور؛ فهذا النمط المسرحي يهدف إلى التخلص من كل القواعد الثابتة والمألوفة، ومن كل ما هو مقبول ومُخصص لتصوير وعكس الحقيقة؛ فمسرح العبث لا يلتزم ببنية المسرحية التقليدية؛ فقد خرج هذا المسرح عن قواعد وأسس المسرح التقليدي فمسرحيات العبث لا يكاد يوجد بها حدث أو حبكة وتفتقر إلى وحدة الموضوع.
قمت بتقسيم هذا الباب إلى خمسة فصول تناولت في الفصل الأول منها الحدث، وتعد مسرحيات مليح جودت آنداي كسائر مسرحيات تيار العبث ليس لها نهاية أو رسالة سعيدة؛ لكن مسرحيات آنداي تتميز عن المسرحيات الأخرى المنتمية لتيار العبث بأنها ذات بنية وحركة واضحة من ناحية تطور الأحداث.
أما الفصل الثاني فتحدثت فيه عن الشخصيات؛ فالشخصية في مسرح العبث أو اللامعقول تختلف أيضًا عن الشخصية في المسرح التقليدي؛ فالشخصيات في مسرح العبث لا وحدة لها.
أما الفصل الثالث فقد تحدثت فيه عن الزمان حيث إن فلسفة العبث ترى أن الحياة عبارة عن مواقف متشابهة تتكرر كل يوم أاو خلال دورة الزمن؛ فالأيام متشابهة ولا تختلف عن بعضها وأحداث الحياة اليومية تتكرر لدرجة أن أبعاد الزمن الثلاثة هى الأخرى تتشابه مع بعضها؛ فالمستقبل يصير حاضرًا والماضي يصبح مستقبلاً في كثير من المواقف كما أن المستقبل يمكن أن يغدو ماضيًا مجدبًا لا نفع فيه وكل ذلك يعني أنه لا جدوى ترتجى من هذا الزمن وأبعاده فروتين الحياة اليومية الذي لا جديد فيه يستمر مارًا في الزمن دون حصول أي تغيير لذا يبدو الزمن والحركة الزمنية متوقفة في مسرح العبث وقد ظهر ذلك بوضوح في مسرحيات آنداي. وفي الفصل الرابع تحدثت عن المكان في مسرح العبث.
أما الفصل الخامس فتناولت فيه اللغة والحوار؛ فمسرح العبث لا يعتمد على اللغة التقليدية في نصوصه، ويبين أنها أداة لا يمكن الاعتماد عليها، وأنها غير كافية لاستخدامها كوسيلة من وسائل الاتصال حيث تستخدم دراما العبث لغة مشوشة ويقدم اللغة الاصطلاحية بوصفها تعمل كحاجز بين الذات وبين الحقيقة، وقد تجلى ذلك أيضا في مسرحيات آنداي.
اعتمدت في هذا البحث على المنهج النقدي مع تحليل النصوص بشكل رئيس كما لجأت أيضًا إلى المنهج التاريخي عند التأصيل لمسرح العبث وجذوره وأيضًا عند الحديث عن حياة الكاتب التركي مليح جودت آنداي وحياته وتطور مسرحه.
وفي النهاية تأتي الخاتمة التي استخلصت فيها مجموعة النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
وقد واجهتني كثير من الصعوبات في هذا البحث أذكر منها:
1. عدم عثوري على دراسات سابقة في هذا الموضع داخل الجامعات والمكتبات المصرية.
2. ندرة المصادر والمراجع التي تتحدث عن مسرح العبث في الأدب التركي والعربي وعدم تمكني من الاضطلاع على بعض الرسائل الموجودة في الجامعات التركية.
Other data
| Title | مسرح العبث عند مليح جودت آنداي دراسة نقدية تطبيقًا على مسرحيات: "غدا في بستان آخر"، "انتبه، يوجد كلب"، "الموتى يريدون التحدث"، "المفتشــــون" | Other Titles | "Melih Cevdet Anday'ın Oyunlarında Absürd Tiyatro" (İncelenen Oyunlar: Yarın Başka Koruda - Dikkat Köpek Var - Ölüler Konuşmak İsterler - Müfettişler") YÜKSEK LİSANS TEZİ | Authors | أحمد نور الدين أحمد عثمان | Issue Date | 2015 |
Recommend this item
Similar Items from Core Recommender Database
Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.