الاستدلال ودوره في المنطق والحياة العملية

هبة السيد محمد أحمد الجنايني;

Abstract


تجلى التفكير الاستدلالي علىالساحة الفكرية،عندما بدأ الإنسان الاتجاه نحو التفكير المنطقي.ولاسيما حينمادعىللتخلي عن كافة التصورات الأسطورية والادعاءات الخرافية، في مقابل الاتجاه نحو مرحلة جديدة تتخذ من المنهجية سمة ضرورية لها في التفكير.
وهذه المنهجية تشير إلىما يُعمم من صيغ الإجراءات الممنهجة التيتنظم التفكير وذلك من أجل الكشف عن معرفة أو حقيقة لم تُسبق لنا معرفتها، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين حينما تكون معروفة لدينا. وأيضاً الوصول إلىالقوانين والنظريات العلمية، والتيقد تكون الدافع الرئيسوراء تقدم العلوم وتطورها.
ومنالمعروف تاريخياً وبصفة عامة،أن المنطقLogicيبحث فيالقواعد والإجراءات المتعلقة بجميع حقول التفكيِر الإنساني فيمختلف المجالات. حيث كانت بدايته الأولىتتجلىفي محيط فن الخطابة بوصفه نظرية البلاغة، ومن ثَم كان يشكل أداة للتأثير في النفوس. وظل هذا المنطق متبلوراً داخل فن الخطابة؛ بُغية الوصول إليالحقيقة( ).
طرأت علىالمنطق دراسات عديدة وتحولات جذرية عميقة علىمر العصور،اتجه فيها نحو مرحلة أخرى- حيث اتسمتتلك المرحلة بالتجلي والوضوح-حتىأصبح أداة رئِيسة في الفلسفة وكافة العلوم؛لأنه يحدد القواعد العامة للتفكير بجميع طوائفه. ومن هذا المنطلق، بدأ يبث فاعليته في إطار ترسيخ دعائمه، باعتباره علماً للفكر ذاته، فبدأ يقف في مواجهة كافة الصراعات التيتتجلىفي الفكر السفسطائي وألاعيبه اللفظية.
وتحددت ملامح المنطق بصورة كاملة علىيد الفيلسوف اليونانيأرسطوAristotle وكان أول من طرح علىالساحة اليونانية مفهوم الاستدلالInference علىنطاق واسع في منطقه الصوري Formal Logic تحت مسمىالقياسSyllogism ، الذي وصفه بأنه منهج في التفكير وآليته. ومن ثَم فقد قدم التاريخ اليوناني العديد من الأفكار البنَّاءة، والتيساهمت في إثراء الروح الفكرية في العصور المتتالية، واستمرت حركة التفكير الاستدلالي في التطور علىمدار تطور المنطق والعلم عبر العصور.
وكل عصر جديد يعني مولد علم جديد غزير بالأفكار، ويعني أيضاً حقل جديد من المعارف والخبرات العلمية.لذا يُحاط الإنسان دائماً بدائرة من المعارف العلمية التي تستوجبأن يستنبطها ويكتشفها؛ من خلال منهج منظم يؤدي به إلىنتائج مثمرة علىأرض الواقع. وهذا الأمر يفتح دائماً أمام الإنسان مجالاً جديداً، سوف تتناوله أيدي لاحقة من العلماء والباحثين في جميع الفروع العلمية، ولهذا المجالجانبان: الجانب الأول، يتمثل في أنه سيتعرض لتفنيدات وانتقادات وتقييمات عديدة، أما الجانب الثاني،فسوف يطرأ عليه قدر كبير من التطور والتغيير خلال تعاقب الأزمنة في الأجيال القادمة، وهذا ما يميز العلم بصفة عامة.
وفي ضوء هذين الجانبين، جاءت كلاً من اسهامات العرب والعديد من علماء الغرب ومن أمثالهم:روجر بيكون R. Baconوفرنسيس بيكونF.Bacon ورينيه ديكارتR. Descartesعبر الهجوم علىالقياس الأرسطي؛بثورة علىالمنطق القديم في آواخرالقرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر الميلادي. حيث رأىبيكون أن العلم لابد أنيتصل بالواقع؛لأن هدفه يكمن في معرفة الظواهر الطبيعية في الكون- أييعود بالمنفعة علىالإنسان- والتيتحتاج إلىالملاحظة والتجريب للوصول إلىالتعميمGeneralization ويتجلىهذا في دور الاستدلال الاستقرائي Induction، الذي يكمن هدفه في الوصول إلىالإبداع والاختراع.
فضلاً عن أنه يقدم الواقع في ثوبِ جديدِ من المكتشفات العلمية، التي تجعل الإنسان متكيفاً مع مستجدات هذا الواقع ومقتضيات هذه الحياة. وبناءاً علىذلك، فإنه قادرعلىاستيفاء الدور الجديد للعلم في إطار مسايرة تطور الروح العلمية للعصر. وقد سبقه في ذلك علماء الحضارة العربية الإسلامية عندما نظروا إلىالواقع نظرة تجريبية، أدت إلىظهور المنطق الاستقرائي، واعترف بيكون في ذلك الوقت بأسبقيتهم في هذا الأمر.
وهذا الاستدلال الاستقرائي ترتكز عليه العلوم الطبيعيةPhyiscal Sciences، وهىالعلوم التي تدرس الظواهر الفيزيائية والبيولوجية لجميع الكيانات المادية؛ لكونها تتعامل مع المادة مثل الصوت والضوء، ومن أمثلتها: الكيمياء والفيزياء، وعلم الفلك، والطب والبيولوجيا وغيرها، هذا من ناحية. ومن ناحيةأخرى،استخدم ديكارت الاستدلال الاستنباطيDeduction وطبقه في العلوم الرياضية، بالإضافة إلىاعتماد المنطق علىهذا النمط بصورة أساسية. وبذلك فقد تكامل جناحا الاستدلال، بما يؤكد علىأن المعرفة والعلم لابد أن تنعكس علىالواقع وعلىالحياة العملية.
شارك العلماء في كافة العلوم بآرائهم المتنوعة حول الطبيعة العامة للاستدلال، وذلك طبقاً لتوجهاتهم وغايتهم التي تشع من بحوثهم في المنطق والعلم. واتفقوا جميعاً علىأن الاستدلال هو نمط معين من التفكير يهدف إلىالإنتقال من المعروف إلىغير المعروف كما يلجأ إليه الإنسان حينما يرتابه سؤالما، أو تتعرقل أمامه مشكلة، فتمثل له معضلة تُخيم علىعقله، فيحاول البحث عن حلها؛ بالاعتماد علىالتفكير الاستدلالي.
وفي لُب هذا التصور العام لطبيعة الاستدلال، اتفقوا أيضاً علىأنه قطر لدائرة العلوم كافة. بحيث يمثل نصف قطرها الأول الاستدلال الاستنباطيالذي يُستخدم في المنطق والعلوم الرياضية، بينما نصف قطرها الآخر هو الاستدلال الاستقرائي الذي يستخدم في العلوم الطبيعية، بالإضافة إلىاستخدام الاستنباط أيضاً في هذه العلوم الأخيرة.
وقد شهدت العلوم علىمدار العقود الماضية، وخاصة في الآونة الأخيرة تطورات عديدة اتخذت مساراً جديداً، اتسم العلم فيها بالتقدم السريع سواء كان علماً نظرياً أو تطبيقياً حتىأصبح سلسلة متوالية من التغيرات والتجديدات. ولم ينجُ المنطق من تلك التطورات عبر تاريخه الطويل، ومن ثم لم ينجُأيضاً الاستدلال من ذلك التطوير؛لأن المنطق في كينونته علم استدلالي بحت.
وفي هذا المضمار، نشأ ما يسمي بالمنطق الرياضيMathematical Logic نتيجة تضافر جهود المناطقة من جانب، وعلماء الرياضيات من جانب آخر في إطار دراسة الأسس المنطقية للرياضيات، وأيضاً من خلال الثورة علىالمنطق الأرسطي، مما نجم عن ذلك تعدد في الأنساق المنطقيةسواء كانت ثنائية أو ثلاثية أو متعددة القيم. وأصيب المنطق الرياضي بموجة من التطور،مما أوجد علىشاطئه أنماطاً منطقية معاصرة،كالمنطق الغائم والمنطق النيوتروسوفيFuzzy and Neutrosophic Logic، وتوسعت حدود تلك الأنماط المنطقية بمدىتطبيقاتها في مجالات العلوم الأخرى، وبمدىما تجنيه من ثمار خاصة في القرن الحادي والعشرين.
فإذا نظرنا إلىالمنطق الغائم- والذي أشار إليه لطفي زاده باعتباره أحد مؤسسيه- سنجد أنه خرج عن الثنائية المألوفة للمنطق الكلاسيكي- أرسطياً أو رياضياً- وذلك من خلال دحض قانون الثالث المرفوع؛ لأن المنطق الكلاسيكي لم يعد قادراً علىمواجهة واستيعاب الغموض الذي يكتنف التفكير الإنساني، بالإضافة إلىعدم قدرته علىمحاكاة العالم، ومن ثَم جاء المنطق الغائم ليحقق ما أخفق فيه المنطق الكلاسيكي، حيث تعامل مع اللايقين Uncertainty الذي يشكل أحدصور الغموض.
واعتمد ذلك المنطق علىمايسمىبالاستدلال التقريبي والذي تعامل مع القضايا اللايقينية، مما سمح بالتدرج المتصل اللانهائي للقيم بين الفاصل المغلق {0، 1}، لذلك يطلق علىالمنطق الغائم بأنه منطق متدرج متصل القيم. وعلاوة علىذلك، أنه خير مُعبر عن الحياة اليومية ومايتم فيها من استخدام تعبيرات غير دقيقة. فعندما نتحدث عن شئ ما، أو نصف شخصاً ما، أو نصف سلوكاً ما: فنقول هذا الشئ كاذب بدرجة ما، أو صادق بدرجة ما، أو هذا الشخص طويل إلىحد ما، أو قصير إلىحد ما... إلخ.ولذا جاء المنطق الغائم ليحاكي مثل هذه التعبيرات، فضلاً عن توسع مجالات تطبيقاته في العديد من الحقول بالاندماج مع التطورات التكنولوجية والتقنيات... إلخ.
وكما ظهر التفكير المنطقي الغائم ليحاكي الغموض واللايقين في العالم، وليجيز تعدد القيم ويتلاءم مع متطلبات ذلك العصر، ظهر أيضاً المنطق النيوتروسوفي ليحاكي اللاتحديد في العالم ويستوعب كافة الكيانات الحيادية، حيث اعتمد علىالاستدلال النيوتروسوفي الذي هو تعميم للاستدلال الدقيق والاستدلال التقريبي.
والجدير بالذكر أن هناك نمط استدلالي آخر يتم اللجوء إليه في الحياة اليومية، ولكن دون إدراكنا بأننا نمارس تفكيراً استدلالياً. لذا أصبح للاستدلال ميدان جديد يطرح فيه فعله ويمارس دوره، وهو ميدان الحياة العملية، مما يضفي وظائف أخرىللاستدلال غير وظيفته النظرية في المنطق، كما أنه يتلاقىمع حركة التفكير الناقد.


Other data

Title الاستدلال ودوره في المنطق والحياة العملية
Authors هبة السيد محمد أحمد الجنايني
Issue Date 2015

Attached Files

File SizeFormat
G10308.pdf596.15 kBAdobe PDFView/Open
Recommend this item

Similar Items from Core Recommender Database

Google ScholarTM

Check

views 804 in Shams Scholar
downloads 247 in Shams Scholar


Items in Ain Shams Scholar are protected by copyright, with all rights reserved, unless otherwise indicated.